القطاع العام: من فقاعة النشوة بالسلسلة الى ذل الأزمة المالية

لبنان عربي – طلال الدهيبي

في تموز عام ٢٠١٧ أقرت سلسلة الرتب والرواتب. قبل هذا التاريخ شهد لبنان “كرنفالاً” من الاحتجاجات والتحركات المطلبية ازدادت وتيرتها خاصة بعيد انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية وبدء العد التنازلي لتشريع السلسلة.
كان القطاع العام متفرقا الى قطاعات وتجمعات وهيئات كثيرة، كل منها تحرك على حدى، دون اي تنسيق مع بقية الهيئات، وعرض مطالبه دون الالتفات لمطالب الاخرين، وعمت موجة من الاضرابات المتنقلة من قطاع الى قطاع، ومن مؤسسة الى اخرى.
يومها دار نقاش خارج الصندوق: أعضاء المؤسسة القضائية لا يقبلون المساواة مع الباقين، الأساتذة الجامعيين ينظرون بدونية الى معلمي الثانوي والمتوسط، والموظفين المثبتين غير معنيين بالمتعاقدين وهكذا دواليك.
وفي النهاية تم اقرار السلسلة بعد تضمينها تعديلات ترضي “طبقات” موظفي القطاع العام، فقد كنا على بعد أشهر من السباق الانتخابي، وكل كتل المجلس النيابي تسعى الى ارضاء ناخبيها ولو على حساب الخزينة العامة التي باتت قاب قوسين او أدنى من الانفجار.
وحده الرئيس فؤاد السنيورة حذر مرارا وتكرارا من مغبة اقرار السلسلة بهذه الطريقة الشعبوية، لكن دون جدوى. طمع موظفي القطاع العام بمختلف فئاته كان طاغيا الى الحد الذي منعهم من التبصر في قانون السلسلة، وأنانيتهم شكلت حاجزا يمنعهم من التوحد لمنع اقرار زيادات خرافية تثقل كاهل الخزينة المنهكة، يأتي في طليعتها زيادة رواتب النواب السابقين والحاليين، والمدراء العامين والسفراء وكبار الموظفين من الفئات المحظية التي تتمتع اساساً برواتب وامتيازات هائلة.
انهارت العملة بعد فترة تزيد على السنتين من اقرار سلسلة الرتب والرواتب، بالطبع لم تكن هي المسبب الوحيد للازمة المالية والنقدية، لكنها كانت العامل الاساسي الذي ساهم في تسريع الانهيار.
لنصل اليوم الى مشروع موازنة ٢٠٢١، الذي يتضمن بعض البنود التي تنال من امتيازات القطاع العام، عندها تحرك القطاع العام، فقط عندما شعر الموظفين فيه ان الموس وصل الى ذقنهم.
سنة كاملة مرت، شهدنا فيها انتفاضة ١٧ تشرين، وانهياراً في العملة على مراحل، وازمات لا تعد ولا تحصى، كل ذلك لم يشكل دافعا للقطاع العام للتحرك الا عندما تعرضت منافعهم للخطر.
يا ليتهم توحدوا عندما كان بامكان هذه الوحدة التأثير في مجريات الامور، لو فعلوها في ذلك الوقت، وركزوا جهودهم على استثناء النواب وكبار الموظفين والمحظيين من مشروع السلسلة، ما كانوا ليصلوا الى اليوم الذي بدأ “مقص” الدولة بتجريدهم من امتيازات حاربوا على مدى سنوات لتثبيتها.
ولأن الانتخابات النيابية كانت على الابواب، كان باستطاعة ممثلي القطاع العام الضغط على المجلس النيابي لسحب تلك الزيادات، وطمعاً في اصواتهم هم وعوائلهم، كان المجلس سيرضخ ويقبل بذلك، لكن كل فئة حصرت تفكيرها في رفع مداخيلها ومنافعها وامتيازاتها على قاعدة انا ومن بعدي الطوفان.
ليستيقظوا اليوم ويجدوا ان الطوفان بات على عتبة مصالحهم وانه يقترب من اقتلاع ثمرة سنوات وسنوات من الاضرابات “بجرة قلم” في موازنة ٢٠٢١ والتي بالتأكيد سيتبعها قرارات اكثر قسوة بكثير. والاكثر ايلاماً ان النواب وموظفي الفئة الاولى ليسوا على جدول “الاصلاحات”، استغل هؤلاء حماس ابناء القطاع العام لاقرار السلسلة، ومرروا زيادات خرافية على رواتبهم، واليوم هي خارج مدار البحث كانها من المسلمات غير القابلة للنقاش.
يدفع القطاع العام ثمن انانية جسمه الوظيفي، خسرت رواتبه قيمتها وأضحت السلسلة هباء منثورا، وباتوا اليوم يتسولون حرفيا بقاء بعض الامتيازات الخاصة بالطبابة في عز الحاجة اليها وكذلك المدراس والتعويضات. يقض الخوف مضاجعهم من احتمال خسارة حتى وظائفهم، وهم العالمون بانتفاخ القطاع العام ومدى محدودية انتاجيته.
الملفت للنظر ان اضراب القطاع العام الاخير، لم يجد اهتماما اعلاميا ولم يلق احتضانا شعبيا، بل على العكس، كان محط استهجان اللبنانيين، يكفي القاء نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي لرؤية الاف التدوينات والتغريدات التي تندد بالقطاع العام وتسخر من موظفيه. منهم من اختار سرد معاناته مع موظفي القطاع العام، فازدحم الفضاء الإلكتروني بقصص فاضحة يمكن جمعها في كتاب يحمل عنوان الفساد في القطاع العام ثقافة وممارسة.
منها على سبيل المثال لا الحصر، موظف من الفئة الثالثة يشغل وظيفتين مرموقتين براتبين كبيرين في نفس الوقت ونفس الدوام، وزوجته موظفة في احدى الوزارات على الورق فقط، والمضحك المبكي ان الموظف اياه بالكاد يظهر في مكان عمله، فهو يكرس معظم وقته لاعماله الخاصة التي توسعت في الآونة الاخيرة، وبات من تجار العملة والشيكات. مجموع ما يتقاضاه هذا الموظف مع زوجته يفوق التسعة ملايين ليرة شهريا مقابل ساعة دوام يوميا هذا ان حضر، يسأل أحدهم هل سينزل هذا الموظف ويتظاهر للدفاع عن مظلومية القطاع العام.
بالاضافة الى قصص عن موظفين في دوائر مالية يتقاضون عمولات ضخمة مقابل توقيعهم على معاملات هي اصلاً من صميم واجباتهم ويقبضون رواتبهم من الدولة من أجل توقيعها.
سيقول البعض ان هذه حالات فردية لا يجب تعميمها على جميع موظفي القطاع العام، لكن الواقع يدحض هذه الفرضية، كما تشهد بذلك مكاتب تخليص المعاملات في الوزارات ودوائر الدولة، والتي تضخم عددها وازدهرت اعمالها بشكل هائل في السنوات الأخيرة بسبب لجوء اللبنانيين اليها لتخليصهم من انفاق وقتهم سدى في ملاحقة معاملاتهم، ومن الذل الذي يشعرون به في اروقة الدوائر الحكومية.
حتى البنك الدولي، الذي يعتبر الملاذ الأخير للبنان لانقاذه من ازمته، يشترط اصلاح القطاع العام ضمن حزمة الاصلاحات التي قدمها للدولة. قطاع عام مهترء، غير منتج، موظفون يتقاضون رواتب ضخمة دون عمل، كلها مفردات تتكرر في تقارير البنك الدولة والمؤسسات ذات الصلة.
حتى الأمس القريب كانت الوظيفة العامة تعتبر الوظيفة الحلم بالنسبة لغالبية اللبنانيين، لكن الازمة الاقتصادية والانهيار النقدي باتا يهددان بتحويل هذا الحلم الى كابوس. فهل ستصبح الوظيفة في مؤسسات الدولة في لبنان كمثيلاتها في الدول المجاورة من حيث ضعف ومحدودية الراتب وندرة الامتيازات؟؟