الرئيسيةرأي

“إتفاق تاريخي جديد” لـ”لبنان”؟

“إتفاق تاريخي جديد”: هل هذا ما يحتاجه لبنان للخروج من معضلته الإقتصادية – السياسية؟

لبنان عربي – سليمان كريمة*

يقوم النظام السياسي في لبنان، مذ كان “دولة لبنان الكبير” في عشرينيات القرن الماضي، على أساس التمثيل الطائفي كما هو معروف. وقد ازداد ترسّخ ذلك المبدأ عند كلّ محطّة سياسية أو حدث مفصلي جديد في تاريخ البلاد؛ بدءا من وضع الدستور، عام 1926، مرورا بتأسيس الجمهورية عام 1943 وليس انتهاءا باتفاق الطائف عام 1989.

وقد اختزل اتفاق الطائف، كما أدرك اللبنانيون أخيرا ولأجل ذلك ثاروا، الدولة ومؤسساتها بزمرة من قادة الطوائف الذين يُعاد إنتاجهم بشكل دوري. والفضل في هذا، للقوانين الانتخابية الطائفية التي فصّلها هؤلاء الزعماء، استنادا لروحية الطائف، وذلك من أجل حصر السلطة فيما بينهم بشكل توافقي، والحؤول دون انتقالها بشكل ديمقراطي حقيقي يهدد بقاءهم.

لكن تلك الطبيعة التوافقية لاتفاق الطائف، وإن كانت وضعت حداً للاقتتال الطائفي الذي دمّر لبنان وبناه التحتية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها أنتجت في المقابل حربا أخرى، طائفية أيضا، دامت ضعف مدة الحرب التي قبلها، وكان المواطن كبش الفداء فيها، وكانت الطبقة السياسية-الطائفية هي من تديرها، على أن الفارق الجوهري بين الحربين، أن الأخيرة لم تكن أهلية، كانت ساحة معركتها: “الاقتصاد ومقدرات الدولة ومؤسساتها”.

حيث قام الاقتصاد السياسي اللبناني منذ اتفاق الطائف على ثلاث أنواع من الشراكات المتينة، يمكن إيجازها كالتالي:

  1. شراكة داخل الطبقة السياسية نفسها، لتقاسم الوزارات والمؤسسات العامة ومنافعها عبر منطق المحاصصة الطائفية بين الأحزاب السياسية التقليدية.
  2. شراكة بين الطبقة السياسية وزبائنها، يوزّع من خلالها السياسيون، عبر منطق الزبائنية كأداة للتعبئة السياسية، الوظائف في الدولة والخدمات العامة والتلزيمات بأنواعها على أساس طائفي ومذهبي.
  3. شراكة بين الطبقتين السياسية والمالية، يؤمّن بموجبها القطاع المصرفي تمويلا استهلاكيا للطبقة السياسية الفاسدة، عبر سندات خزينة وبنسب فائدة عالية، من أجل تغطية أشكالِ وتمظهراتِ فساد تلك الطبقة، وتؤمّن الأخيرة بدورها أرباحا كبيرة لهذا القطاع المصرفي.

وعلى مدار ثلاثة عقود من الزمن، أدى هذا النموذج المتّبع الى ترسيخ الفساد، وتضخّيم الدين العام، وإعاقة أداء الدولة ومؤسساتها. كما أدى أيضا الى مراكمة الثروات الريعية التي كانت تذهب للمصارف وجيوب مصرفيين وسياسيين. هذا فضلا عن تعطيل النمو الاقتصادي في البلد وإعاقة تنميته وتصفير إنتاجيّته.

كما عقّد أيضا إمكانية تنفيذ إصلاحات لتغيير هذا النموذج الكارثي، الذي يطالب الحَراك الشعبي بتغييره مذ خرج للشارع منتفضاً في 17 أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي (2019).

وصار مستقبل النموذج الاقتصادي، كما يبدو، مرتبطا بما سيؤول إليه اتفاق الطائف منذ أن ثار الحراك وطالب بإسقاط النظام الذي أنتجه الاتفاق. كما أن اتفاق الطائف نفسه بات مرتبطا أيضا بما ستؤول إليه ظروف الاقتصاد السياسي اللبناني.

“توافق سياسي جديد” قبل الشروع بالإصلاح برعاية إقليمية أو دولية

وعلى مرّ العقود الثلاثة الماضية، لم يتوقف سيل الكتابات التي حاولت تقديم رؤى ومشاريع لإصلاح الاقتصاد ومعالجة أزماته المزمنة. حيث تتفق معظم الأطروحات على مسألة أساسية هي التغيير الجذري في أسس الاقتصاد وتحويله من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج ومستدام عبر إجراء اصلاحات هيكلية في النظام النقدي والاقتصادي.

واللافت في أن بعض تلك الكتابات والمؤلفات كانت لخبراء اقتصاديين من بينهم وزاء سابقين، كانوا جزءا من السلطة السياسية، لكنهم لم يتمكنوا من تغيير ذلك النموذج أو التأثير فيه. وهو ما يؤكّد، نظرية اللبنانيين المنتفضين، حول الارتباط الوثيق ما بين اتفاق الطائف والطبقة السياسية الطائفية المسيطرة على الحياة السياسة اللبنانية، باعتبارها المسؤولة عن إنتاج وترسيخ الفساد السياسي والمالي، المصنّع للأزمات والمعطّل لمبادرات الإصلاح الاقتصادي.

ولذلك، نعتقد بأن “ورطة” بحجم ورطة لبنان المالية والاقتصادية، هذا البلد الصغير، فقير الموارد الطبيعية وغني الموارد البشرية، وفي ظلّ الظروف الاقتصادية والسياسية الإقليمية وكذلك الدولية غير المواتية، تتطلب، قبل الحديث عن الشروع بأي إصلاح اقتصادي ومالي، إن من جهة السلطة التقليدية أو الحكومة أو حتى الحراك والمجتمع المدني، تتطلب ربما صيغة توافق “سياسي” جديدة، ولو “مبدئية”، ترعاها دولة وساطة دولية أو إقليمية، كدولة قطر، على سبيل المثال، والتي كانت آخر تجاربها في هذا المجال، المساهمة في الوساطة بين واشنطن وحركة طالبان الأفغانية للوصول الى اتفاق سلام في فبراير/شباط (2020) الماضي، وهو اتفاق وصف “بالتاريخي” لإنهائه واحدة من أطول حروب العصر، والتي خاضها الطرفان ولمدة 19 عاما.

 لكن الاتفاق الجديد الذي يحتاجه لبنان هذه المرة، بغض النظر عن الدولة الراعية له، يجب أن يختلف عما سبقه من اتفاقات طبعا، فيكون بين الحراك المدني/الوطني من جهة، والسلطة السياسية-الطائفية من جهة أخرى، وليس كما قبل، فيما بين زعماء الطوائف!. اتفاق تحّل الدولة اللبنانية فيه مكان الطائفة وزعمائها، وتحلّ المصلحة الاقتصادية للبنان مكان حصص الطوائف وأحزابها.

ضرورة الوعي السياسي

إلا أن الوصول الى تلك الصيغة، يتطلب وعياً سياسياً استثنائياً واستيعاباً خاصاً للتجارب المحيطة، ومسؤولية تاريخية من قبل الطبقة السياسية والحراك المدني معاً، وتنازلات من كلا الطرفين، يسبقها عودة الحراك الى الشارع مجدداً وبقوة بعد انقضاء محنة كورونا، من أجل الخروج للمطالبة، وبصوت عالي، تشكيل حكومة جديدة جامعة تلقى دعم الحراك، وتعبّر في نفس الوقت عن تطلّعات جميع اللبنانيين، فلا تستبعد الأحزاب التقليدية بشكل نهائي، ومن بينها حزب الله، (مع ترك مسألة سلاحه جانباً، على الأقل مرحلياً)، فتلك الأحزاب تمثّل في نهاية المطاف شرائح داخل المجتمع اللبناني، ومن غير المنطقي فضلا عن أنه من غير الممكن، المطالبة بتحييدها تماما عن المشهد السياسي اللبناني.

كما يجب أن يتسلّم “خبراء” المجتمع المدني في تلك الحكومة (والذي على الحراك والمجتمع المدني أن يتوافق عليهم ويرشّحهم) الوزارات الرئيسية المعنية بتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في هذه الفترة الحساسة، سيما وزارة الخارجية والداخلية، والاقتصاد والصناعة والمال، والطاقة والصحة والعدل، والتنمية الإدارية والبيئة، بينما يتسلم الوزارات الأخرى، خبراء “التكنوقراط” المحسوبون على الطبقة السياسية.

فتشكيل حكومة وفاق وطني حقيقي كتلك، سيعطيها شرعية شعبية ودولية تساعدها في أي خطوة ستقدم عليها من أجل:

  • معالجة الأزمات القائمة والقادمة على الأغلب، والتي أضرّت وستضرّ بجميع من في المركب؛ الطبقة السياسية، واللبنانيين المنتفضين وغير المنتفضين.
  • التعامل مع التحديات المستقبلية وخصوصا الاقتصادية منها، لا سيما جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتأمين الدعم المالي الخارجي، لو تم التوافق على ذلك من أجل المرحلة الأولى من مراحل معالجة الأزمة والتحول الى نموذج اقتصادي وسياسي جديد.

على أن يتم بعد ذلك إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة، ينصّ عليها الاتفاق، لانتخاب مجلس نوّاب، عبر قانون انتخابي عادل، يُطبَّق بشكل يخدم الهدف منه، وبحيث يقيّد القانون الممارسات الإنتخابية القائمة على أساس طائفي، ويكون بمثابة اختبار لمتانة الثقافة السياسية اللبنانية العابرة للطوائف، والتي ظهرت ملامحها في سلوك وخطاب الحراك منذ انطلاقه وحتى اليوم، في محنته “الكورونية”.

باحث وكاتب لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى