
لبنان عربي
لم يكن يتوقعُ أكثر المتشائمين أن يهبط الرسم البياني لتيار المستقبل في الشمال بهذا الحد خلال فترة خمسة عشرة سنة على اغتيال رفيق الحريري. غداة الاغتيال المشؤوم تحوّل الشارعُ الشماليُّ وتحديداً في أقضية طرابلس والمنية-الضنية وعكار الى حريريٍّ صرف، كان ذلك تحوّلاً كبيراً، فرفيق الحريري كان يختصر وجوده في تلك المناطق بممثلين اثنين هما أحمد فتفت وسمير الجسر، اضافة الى بعض الخدمات التعليمية التي كانت تؤمنها مؤسسة الحريري عبر منح جامعية، وخدمات صحية كان يتم معظمها في مستوصف الحريري الكائن في طرابلس. لكن بعد الاغتيال دُبِغت صورة الشمال السياسيّ باللون الأزرق، وانكفأت بعد ذاك بيوتٌ سياسيّةٌ كثيرة كانت على خلاف مع الحريرية فخسرت الانتخابات النيابية في سنة الاغتيال، وتقلّصت شعبيتها الى الحدّ الأدنى، ذلك الحدُّ الذي يجعل –بنظر الرأي العام الشمالي- كُلَّ عدوّ للحريرية السياسية عدوّاً للطائفة والدين. انكفأ جهاد الصمد في الضنية، وعمر كرامي في طرابلس، وصالح الخير في المنية، ووجيه البعريني وطلال المرعبي في عكار، وخلا الجوّ لوجوهٍ جديدة تبنت الخطاب الحريري، فوصلت لسُدة البرلمان ولن ندخل هنا في مجال التسميات!
لكنّ الصورة انقلبت رأساً على عقِب، فالشمال لم يعد كذلك، إذ سُرعان ما بدأت تخفت تلك الموجة الحريرية شيئاً فشيئاً، بفِعل سوء الادارة الحزبية، او بفعل فُقدان الخطاب السياسي زخمه مع مرور الوقت. فالخطاب الذي كان يرتكزُ على “دم الشهيد”، و”معاداة سوريا”، و”مشروع رفيق الحريري”، سقط تباعاً، اذ أجبرت التركيبة اللبنانية سعد الحريري على التراجع عن السقف العالي للخطاب، فهادن حزب الله، والمحور السوري في لبنان، ومن ثم زار سوريا سنة 2009 ليعلن منها أن اتهام النظام السوري باغتيال الحريري كان اتهاماً سياسيا. فسقط بذلك العمود الأول لخطابه. أما مشروع رفيق الحريري الذي تحدث عنه الرئيس سعد، فلم يرَ منه أبناء الشمال شيئاً. حتّى ارهاصاته التي كانت متمثلة ببعض الخدمات أيام رفيق الحريري انتهت الى غير رجعة، فغابت المساعدات المعيشية في المدينة الأكثر فقرا في لبنان، وتم اغلاق المستوصفات تباعاً، فيما لم يحظَ شباب الشمال بمنحة دراسية واحدة من تلك التي كان يفتخر تيار المستقبل بها. إذاً، سقطت كل أعمدة الخطاب وبقي منها فقط، ذلك الحنين لدى الرأي العام الشمالي الى الحريرية السياسية في مرحلة ما بعد اغتيال الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، اضافة الى شخصية سعد الحريري الكارزماتية التي تستهوي جزءاً يسيراً من الناخبين.
مخطئ من يقول بأنّ الحريرية السياسية صنعها المال الانتخابي. بالطبع ساعد ذلك المال في مجال الاعلام وشراء المفاتيح الانتخابية، لكن القاعدة الشعبية للحريرية السياسية بمعظمها هي قاعدة عاطفية. والدليل أن رفيق الحريري لم يستطع في أوج قدرته المالية والدعم السعودي غير المحدود له الحصول على ذلك القدر من الشعبية لا سيما في البيئة الشمالية. لذلك فان جزءاً من الانحدار في شعبية الحريري يعود الى سوء الادارة في عدة ملفات شمالية، وبالتحديد لناحية الأمانة العامة لتيار المستقبل التي ساهمت في ابعاد كثير من “الاوفياء” عن خط تيار المستقبل. الغريب هنا أن هذا الابعاد جاء لحساب شخصيات كانت حتى الأمس القريب على خطٍ موازٍ معادٍ للحريرية السياسية.
كما ساهمت الواقعية الانتخابية واختيار مرشحين موسومين تاريخيا بعدائهم للحريرية، كمرشحين على لوائح المستقبل، في الزخم الشعبي الذي كان سائدا من قبل، مع الاشارة الى ان هؤلاء اصحاب حيثيات شعبية مناطقية، كانوا بالامس القريب على الضفة المقابلة للمستقبل في الانتخابات، كوليد البعريني وطلال المرعبي في عكار على سبيل المثال لا الحصر. وكذلك حصل أمر مشابه في منطقة المنية، دلّ على تخبط المستقبل في قراراته الانتخابية، فبعد وفاة النائب هاشم علم الدين حدث هرج ومرج في المنية لناحية اختيار البديل الذي تحتم الاخلاقيات السياسية ان يكون مستقبليا، بعد أخذ ورد كبيرين اختير آنذاك كاظم الخير نجل النائب السابق صالح الخير الذي كان مبعدا عن المشهد السياسي والبرلماني، وبعد قراءة المشهد الانتخابي اضطر تيار المستقبل للتحالف معه، فاختاره للانتخابات الفرعية التي شهدت سخطاً تُرجم في صناديق الاقتراع انتخاباً هزيلاً لم تصل ارقامه الى 35 الف ناخب، نال منها المرشح كمال الخير 14 الف صوت.
قد تكون تلك التحالفات مع أخصام الأمس اضطرارية بالواقع الانتخابي، لكنها تعد مؤشرا لعدم امكانية ناسجها من خوض الانتخابات منفردا. وهذا يشير الى ان المستقبل لم يعد الطرف الأقوى، وهذه حقيقة تدعمها الأرقام، ارقام انتخابات 2018، ففي منطقة طرابلس، حاز التيار على 26 الف صوت منها 10 الاف لحليفه النائب محمد كبارة، فيما نالت اللوائح الأخرى أكثر من 60 الف صوت. وفي الضنية نال المرشح جهاد الصمد ضعفي ما ناله الفائز الثاني النائب عن تيار المستقبل سامي فتفت، وفي المنية فاز مرشحه عثمان علم الدين (صاحب الـ 5000 صوت تجييري) بـ10 الاف صوت مقابل 11 الف صوت للمرشحين الاخرين.
الشمال لم يعد كذلك، هذه حقيقةٌ ثابتة، والانكفاء لتيار المستقبل أصبح أمراً واقعاً بالأرقام لا بالعواطف، وخطاب 2005 لا يمكن احياؤه ولو جهد سعد الحريري بذلك في الذكرى الخامسة عشرة لاغتيال والده، ذلك أن الظروف تغيرت، والشمال الآن يبحث عن بديل… فهل تؤمن انتفاضة 17 تشرين شيئاً منه!!!