
لبنان عربي- مروان الخطيب*

بينَ رمضان والشِّعرِ، آصرةُ حُبٍّ وسُموٍّ وتحاليق. وبينَ فلسفةِ الصَّومِ وماوراء الكلام الموزون والمُقفَّى،حِكمةٌ بالغةٌ وتقوى مُرتجاة!.قد تبدو هذه المُقاربةُ- للوهلةِ الأُولى- غَريبَةً، لجهةِ مضمونها وما رمتْ إليه، بينَ نُسُكٍ تَعبُّدي مشروعٍ ومَفروضٍ من خالقِ الأَكوان، وبينَ حالةٍ إبداعيَّةٍ تُحاكي مرامي الجمال وآفاقَهُ في النُّشدان الجِبِلِّي للإنسان. والمُدققُ في النُّصوص الشَّرعية التي تضمَّنتْ خطابَ الشَّارعِ المُوجب الصِّيام، من آياتٍ قُرآنيَّةٍ وأحاديث نبويَّةٍ ثابتةٍ عن الرَّسولِ مُحمَّدٍ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأزكى السَّلام، سيجدُ أنَّ غائيَّةَ الصَّومِ مُرتبطةٌ بفحوى التَّقوى، وإنجاز مراميها العملانيَّة في قولِ وفعلِ المسلم، في سياقِ قيامِهِ بإشباعِ طاقتِهِ الحيويَّةِ في المجالِ الاحتياجيِّ الغريزيِّ والعُضويّ.
وبالعودةِ إلى قولِ اللهِ سبحانهُ وتعالى في سورة البقرة( يا أَيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكُمُ الصِّيامُ كما كُتِبَ على الذينَ من قَبْلِكم لعلَّكم تتقون)، يرسَخُ في رُوْعِنا وعقلِنا أنَّ الشَّارعَ العظيمَ، قد أرادَ لنا من فرضِ الصِّيامِ علينا، أنْ نسمُوَ – عَبْرَه – ُ إلى تحاليقِ الطَّاعةِ لهُ جلَّ وعلا، فنلتزم أوامرَهُ وننتهي عمَّا حرَّم. وتلكَ عَيْنُ التَّقوى ورُوْحُها، والتي عرَّفها الإمامُ عليٌّ بنُ أبي طالب كرَّمَ اللهُ وجهَه بِ [ الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتَّنزيل، والاستعدادُ ليومِ الرَّحيل].
وفي المَقامِ نفسِهِ، إذا عُدنا إلى كُتبِ التُّراثِ ك (العِقدِ الفريد) وسِواهُ ممَّا تَضمَّنَ الكلامَ على الشِّعرِ وأقوالَ عُلَماءِ الأُمَّةِ ومُفكِّريها فيه؛ لا شكَّ في أَنَّنا سنقعُ على ما يُطمئنُ القلبَ لجهةِ ارتباط الشِّعرِ بالحِكمةِ والمُروءةِ، وبالقيمِ العُليا والسَّامية. فقد وردَ أنَّ الخليفةَ عمرَ بنَ الخطَّاب رضيَ اللهُ تعالى عنه قد أرسلَ إلى أُمرائهِ في الأمصارِ طالباً منهم أنْ يُعلِّموا أبناءَ الأُمَّةِ الشِّعرَ، في سياقِ تحقيقِ البناءِ القيميِّ العالي الهِمَّة. وذاكَ نعثرُ عليهِ أيضاً، في جنباتِ (العِقد الفريد)، ولاسيَّما في قولِ عبد الملك بن مروان لمُؤدِّبِ أَولادهِ:(رَوِّهم الشِّعرَ، يَمْجُدوا وينجُدوا).
من هُنا، نرى أنَّ ارتباطَ الشِّعرِ بالصُّورةِ الخَلوبِ والأَخَّاذةِ، وبجماليَّةِ الأَداءِ الفنِّي، لم تَنْأَ بهِ عن معانقةِ الحِكمةِ وأَبعادها الخُلُقيَّة، وبالتَّالي، لمْ تُبْعِدْهُ عن التَّواصلِ الحميمِ معَ الفكرِ وتجلِّياتِهِ الضَّابطةِ للسُّلوكِ الإنسانيِّ في مُعتَرَكِ الحياة.ومن جهةٍ ثانيةٍ، لو تصفَّحنا الأَشعارَ التي قيلتْ في شَهرِ الصَّومِ وفلسفةِ الصِّيام، سنجدها كثيرةً في أَسفارِنا ودواوينِ شُعرائنا.
فهذا ابنُ الجوزي في (بُستانُ الواعظين) يذكرُ:” قُل لأهـل الذُّنوبِ والآثامِ قابلوا بالمتابِ شهرَ الصِّـيامِ إنَّه في الشـهور شهرٌ جليلٌ واجبٌ حقُّه وكيـدُ الزّمامِ وأقلُّوا الكـلام فيه نهـارًا واقْطعـوا ليلَه بطـولِ القيامِ واطلبـوا العفوَ من إلهٍ عظيمٍ ليس يخفَى عليه فعلُ الأنامِ واجتهـدْ في عبادة الله واسأل فضـلَه عند غفلةِ النُّـوَّامِ يا لها خيبـة لِمَن خاب فيه عن بلوغ المنَى بدار السَّـلام”.
النَّاظرُ المُتمعِّنُ في الذي ذكرهُ إبنُ الجوزيِّ، يرى جُملةً من المفاهيمِ التي أتى بها الإسلامُ في شأنِ الصِّيامِ، يراها مُعَشِّشةً في هذا الشِّعرِ الوعظيِّ، ومؤكِّدةً على وجوبِ التَّخلقِ بها وإنجازِ مراميها في أثناءِ التَّلبسِ بفريضةِ الصِّيام. فالتَّوبةُ إلى اللهِ تعالى من الذُّنوبِ والمعاصي، والعُزوفُ عن الإطنابِ في الكلامِ الذي لا طائل منه،وقيامُ اللَّيلِ فيهِ بالصَّلاةِ والذِّكرِ والطَّاعات، وطلبُ الغفرانِ من ربِّ الأنام، وصولاً إلى أعلى مراتب التَّبتلِ والطَّاعة؛ كُلُّها معانٍ، حضَّتْ عليها الآياتُ القرآنيَّةُ الواردةُ في الصَّوم، والأحاديثُ النَّبوية الشَّريفة التي ثبتت عن رسولنا الكريم(ص) في الشَّأنِ ذاته.
وفي المنحى نفسِهِ نقرأ لشاعرٍ آخرَ في الصِّيام:” أَتَى رَمَـضَانُ مَـزْرَعَـةُ العِـبَـادِ لِـتَـطْهِـيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَـسَادِ فَـأَدِّ حُـقُـوقَــهُ قَـوْلًا وَفِـعْـلَا وَ زَادَكَ فَـاتِّـخِــذْهُ لِلْــمَـعَـادِ فَمَنْ زَرَعَ الـحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا تَــأَوَّهَ نَادِمًــا يَـوْمَ الـحَـصَـادِ”.
يا لها من أبياتٍ شعريَّةٍ روائعَ ومواتع!؛ تتقلَّبُ بينَ الإخبارِ والإنشاء، وتحتضنُ المجازَ والتَّشبيهَ الكاملَ، والتَّقديمَ والتَّأخيرَ، في السِّياقِ البلاغيِّ الآسر(وَ زَادَكَ فَـاتِّـخِــذْهُ)، وصولاً إلى خواتيمِ الحِكمةِ المُخضلَّةِ بروعةِ الجَذبِ المُشرفِ على المعاني المُنَزَّلةِ وحياً، من أجلِ لمسِها حقيقةً وفعلاً إيمانيَّاً في أعمالِ العبادِ الصَّائمين.
وهُنا، نستشعرُ عُمقَ الاندغامِ بينَ رُوْحِ الشِّعرِ، وغائيَّةِ الصَّوم، في أَدبِ وجوهرِ مَنْ أَدركوا فحاوى الاتصالِ بينَ هذينِ البُعْدَين. ما يُؤكِّدُ حقيقةَ ارتباطِ شِعرِنا بجوهرِهِ الفكريِّ؛ الأمر الذي نعثرُ عليهِ جليَّاً وواضحاً في قراءةِ فلسفةِ هذا الفنِّ منذُ نشوئهِ الأَوَّل، ومنذُ وجودِ الإنسانِ على الأرضِ وبحثهِ عن كُنْهِ وماورائيَّةِ هذا الوجود؛ حيثُ ارتبطتْ غنائيَّةُ القلبِ الآدميِّ بفكرِهِ وبحثهِ عن أُمِّ الحقائقِ الكامنةِ في أُسِّ الأعيانِ النَّابضةِ والصَّامتة.
ولعلِّي أختمُ بما هو خير، بالذي تضمّنَهُ قولُ شاعرنا:” فَمَنْ زَرَعَ الـحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا تَــأَوَّهَ نَادِمًــا يَـوْمَ الـحَـصَـادِ”؛هذا القول الجامع في ثوبِ الحِكمةِ، زمام الذي بينَ القلبِ والعقل، والذي بينَ الشِّعرِ والفكر!.
شاعر وأديب فلسطيني