
لبنان عربي – مصطفى العويك

كان مزهوا وهو يداعب شعيرات ذقنه التي سكنها الشيب، عندما خرج من باصه الأخضر المخصص لنقل الخبز الى المحلات الصغيرة، ليقطع الحديث السيّار بين زميلي وصديقه الإسلامي المتنور، باغتهم كمن قبض على قاتل عمر بن الخطاب بالجرم المشهود، قائلا: “طرابلس مدينة العلم والعلماء لا يدخلها الكورونا، الإيمان هنا وأشار بحركة قوية ناحية قلبه، والمؤمنون رجال الله لا تصيبهم الأمراض”.
هذا المشهد ليس عابرا ولن يكون، حدثت مشاهد عديدة مشابهة له قديما، وحاليا منذ بدء انتشار عدوى الكورونا، استُعيد ليس فقط في لبنان بل في أغلب دول العالم، ولم تقتصر المشاهد على أتباع ديانة واحدة بل شارك في تظهيرها المسلم والمسيحي واليهودي وغيرهم.
فـ”الفيروس لا يصيب المؤمنين”، على حد قول آية الله قاسم الطائي المرجع الشيعي العراقي، مستندا الى قول منسوب للإمام الصادق: “إن في طين الحائر الذي فيه الحسين شفاء من كل داء وأمانا من كل خوف”. و”هذه المدينة لا يدخلها الكورونا” كما عبر الشيخ الملتحي في طرابلس، ومن يتبرك بتراب القديس مار مارون فان حجابا كبيرا يشيّد بينه وبين ذرات الفيروس، وفقا لما نقلته سيدة مسيحية في منطقة عنايا اللبنانية. هذه المقاربات الثلاث وإن لم تكن متوازنة لناحية مصدرها الا انها تعكس واقعا حقيقيا نعيشه في التعاطي مع كورونا يمكن وصفه بإنكار العقل.
المساجد وكورونا
ولأن المكان الطبيعي للمؤمن المسلم، هو المسجد فكان “كفر وردة” عند البعض إغلاق المساجد بسبب الوباء، فمن يفعل ذلك ظالم بنص كتاب الله، “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها..”؟، وزنديق يحتاج الى تجديد إيمانه، ومقصر في العبادات ومضيع لها.
ولذلك خضعت مسألة تعليق الصلاة جماعة في المساجد لحين تأمين سلامة المصلين، للكثير من السجالات بين أهل الطائفة الواحدة، فعلى الرغم من إصدار الأزهر فتوى بجواز إغلاق المساجد في هذه الظروف صونا للنفس، وتوقف الكعبة والمسجد الحرام عن استقبال المعتمرين والطائفين، وميل عدد كبير من العلماء الى القول برخصة اغلاق المساجد على اعتبار ان ذلك يندرج في صلب مقاصد الشريعة الإسلامية، خرج بعض المشايخ في لبنان والعراق للقول بعدم جواز ذلك، مصرين على إقامة صلاة الجمعة جماعة في المسجد، محذرين من تخويف البعض لهم، فـ”المؤمن الحق لا يدخل الخوف الى قلبه، ولا يصاب بالمرض”، لكن ماذا عن المؤمن المزيّف الذي آثر البقاء في البيت؟ هل هذا من فئة “يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة”؟ ومن حضر الجمعة فإن برجه رباني؟ أوليست كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة”؟.

جوهر المشكلة عند هؤلاء ليس اعتقادهم اليقيني ان أمثالهم لا يصابون بالفيروس، لذا لا حاجة لهم بالحجر الصحي ولا بالعقاقير وسبل الوقاية والمعالجات الطبية الدنيوية، أرواحهم مشبعة بالإيمان، والإيمان ماء الروح، فما حاجتهم للجسد؟
جوهر المشكلة أن هؤلاء لا زالوا يقدمون الموروث على النص الديني، ويعالجون مشاكلهم على اختلاف طبيعتها بالعاطفة والدروشة، لذلك لا تحل إنما تتأجل وتتكرر، فتتفاقم وتظهر بصور أشد تعقيدا.
مشكلتهم أنهم أنكروا على الله عطاياه، واستسلموا له عن علم غير عاقل، وهذا النوع من الاستسلام استسلام منقوص، لأنه لا يشمل أهم مخلوق في دواخلهم وهو العقل. ألم يهبهم الله عقلا ليتدبروا ويتفكروا ويتأملوا؟ وخاطبنا جميعا: ألا تعقلون؟ ألا ترشدون؟…كل هذا تجاوزوه لصالح نصوص موروثة قدمت في السلوكيات على نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة.
والإشارة هنا بالطبع لـ”العقل المؤمن” الذي يطيع الله عن علم ودراية، المتحرر من اتباع الهوى والذي ينطبق على أصحابه قوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} البقرة/ 269، الذين وصفهم العز بن عبد السلام بقوله” هم من خلصت عقولهم من شوائب الهوى”.
لذا فإن هؤلاء المشايخ غامروا بمصالح العباد، ولم يعقلوا أن هذا الفيروس يهدد النفس البشرية بانتقاله السريع عبر المخالطة، أو بالأحرى عقلوا لكنهم كابروا وإنتصروا لصوت الروح في تلبيتهم نداء الله. هم اجتهدوا لكن من غير عقل، اجتهاد تقوده الفطرة لا الفكرة.
والمشكلة أن جزءا من المصلين تتبعوا آثار مشايخهم وغلبوا العاطفة الدينية، فتبعوا الإمام في ما أراده لذاته من مخالفة الإجماع، لتظهير نفسه على أنه أكثر إيمانا من المشايخ الآخرين وبالتالي أحق اتباعا منهم.
الا أن الملامة الكبرى لا توجه الى عامة الناس هؤلاء، فهم ليسوا أكثر من مسافرين على متن قطار يثقون بقائده كل الثقة، متيقنون أنه يقودهم الى حيث خيرهم ونفعهم، الملامة الحقيقية توجه للسائق الذي من المفترض أنه يكون مطلعا على كل ما يحيط بهذه السفرة من تفاصيل ليقرر بعدها مستشيرا اهل الخبرة ان كان ينطلق او لا، وكان الاجدر بالأئمة والخطباء أن يكونوا أكثر حرصا على سلامة المسافرين، أوليست صلاة الجمعة “سفر روحي” للإنسان تطهره من ذونبه الى الجمعة القادمة ما لم يرتكب الكبائر؟ وهل يسافر المصلي المؤمن في جو من الخوف والهلع والتهديد المباشر بالضرر؟
قد تكون “الكورونا” فرصة لتجديد الإيمان الداخلي وتصويبه، بحيث يصبح إيمانا منضبطا بضابط العقل. فالعاطفة الدينية مطلوبة وأصلا لا يمكن تغييبها، لكنها تحتاج الى سياج يحدها، والعقل سياجها وحاميها بالوقت عينه، يمنعها من الإفراط في الحضور ويردعها عن التفريط الكلي بكينونتها.
جائحة “كورونا” محنة على البشرية جمعاء، والخروج منها يتطلب عقلا مستنيرا وعلما حديثا متطورا وايمانا ثابتا، بتوفر هذا المثلث تتجاوز البشرية الجائحة بأقل الخسائر. علينا الإعتراف بذلك وعدم المكابرة، وإلا سنكون أكثر من يدفع الثمن.