
لبنان عربي – سامر زريق
“تشكيل لجنة فرعية للنظر في البعد التاريخي وإجراء حوار بهدف إعادة إحياء الثقة بين الشعبين، بما فيها دراسة علمية غير منحازة للوثائق التاريخية والأرشيف من أجل توضيح الخلافات العالقة وصياغة التوصيات بمشاركة إختصاصيين أرمن وأتراك وسويسريين ودوليين آخرين”.
ورد هذا البند حرفياً ضمن بنود إتفاقية “زيوريخ” التي تم توقيعها عام 2009 بين تركيا ممثلة بوزير خارجيتها وقتها أحمد داود أوغلو، وأرمينيا ممثلة بوزير خارجيتها ادوار نالبنديان، لتسوية الخلافات المتجذرة بين البلدين الجارين منذ أكثر من قرن، وذلك في جامعة زيوريخ في سويسرا، برعاية أميركية وبحضور وزراء خارجية أميركا وروسيا وفرنسا والإتحاد الأوروبي.
تعد هذه الإتفاقية هي الأولى بين تركيا وأرمينيا، منذ توقيع إتفاقية “قارس” في 13 تشرين أول/أكتوبر عام 1921 الى جانب جورجيا وأذربيجان لرسم الحدود بين دول القوقاز.
وهي ثمرة محادثات إستمرت سنتين، وقد سبقها زيارة تاريخية قام بها رئيس الجمهورية التركية في ذلك الوقت “عبد الله غول” الى أرمينيا لحضور مباراة كرة قدم تجمع بين منتخبي البلدين ضمن التصفيات المؤهلة لكأس العالم.
نصت إتفاقية “زيوريخ” على تبادل التمثيل الديبلوماسي، وعلى فتح الحدود بين البلدين خلال شهرين من موافقة البرلمان في كلا البلدين على الإتفاقية (تفوق الحدود التركية الأرمينية 800 كلم، وهي مغلقة منذ العام 1993 بقرار من الحكومة التركية).
كما نصت على تأليف لجان للتعاون ودرس المشكلات المشتركة الإقتصادية والسياسية والتعاون في مختلف المجالات، منها لجنة مشتركة من مؤرخين أرمن وأتراك وسويسريين لدرس الأحداث التاريخية في العام 1915، وإستخلاص التوصيات اللازمة.

الإتفاقية الفرصة
لقد كانت هذه الإتفاقية فرصة تاريخية وذهبية لن تتكرر للبدء في طي صفحة الأحقاد التاريخية بين الأرمن والأتراك بعد ما يقارب قرن من العداوة المطلقة، لكن مع لم يُكتب لها النجاح، فسقطت سريعاً بفعل تصويت البرلمان في كلا البلدين ضدها.
وفي آذار/مارس عام 2018 أعلنت أرمينيا قطع العلاقات مع تركيا، كما أنها ألغت إتفاقية التطبيع مع تركيا متهمة أنقرة بأنها عاجزة عن التخلص من الأفكار النمطية، وكانت المفارقة أن الرئيس الأرميني سيرج سركيسيان الذي أدار عملية التفاوض مع الجانب التركي قبل توقيع الإتفاقية عام 2009، هو نفسه من نشر مرسوم إلغائها.
أسباب حالت دون التنفيذ
والسؤال الذي يطرح نفسه: طالما أن الحكومتين التركية والأرمينية وقعتا على الإتفاقية، لماذا سقطت في البرلمان، مع العلم بأن الحكومة في كلا البلدين تمثل أكثرية حزبية أو إئتلافية وتتمتع بدعم غالبية أعضاء البرلمان؟
هناك عدة أسباب ساهمت مجتمعة في إبقاء الإتفاقية حبراً على ورق، على الرغم من وجود نخب ثقافية وإجتماعية في كلا البلدين تُشجع على التقارب بين الدولتين، ونذكر في هذا الإطار توقيع المئات من المثقفين الأتراك أواخر عام 2008 على بيان إعتذار من الأرمن على الكارثة الكبرى التي حلت بهم في عام 1915.
يأتي في طليعة هذه الأسباب غياب الدعم الدولي الفعلي، على الرغم من الرعاية الشكلية للإتفاقية وحضور ممثلين عن أبرز القوى العالمية.
فالدول الكبرى لا تريد إنهاء هذا العداء التاريخي، إنما على العكس، تقوم بإستثماره الى الحد الأقصى لإبتزاز الدولتين، وتستخدم المجازر المرتكبة ضد الأرمن مثل القضية الكردية كسيف مسلط على رأس الأتراك لإبتزازهم من أجل ضمان عدم تغريد الدولة التركية خارج السرب، وجنوحها بعيداً في مواقفها خارج مظلة حلف شمال الاطلسي.
كما يتم إستخدام المجازر الارمينية كفزاعة للشعب الأرميني بغية عدم ترك أي هامش للتقارب بين الشعبين الجارين.
وساهم الشعور القومي المتدفق بغزارة لدى الشعبين، والذي تمت تغذيته من قبل المعارضة في تركيا، ومن قبل الدياسبورا الأرمينية (الأرمن في المهجر)، الذين يمتلكون تأثيراً كبيراً على قرارات وتوجهات الدولة الأرمينية، في الحؤول دون تمرير الإتفاقية في البرلمانين التركي والأرميني.
وحدّ الشعور القومي العارم في تركيا من اندفاعة التيار المؤيد للمصالحة مع أرمينيا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، التهديدات التي تلقاها الأديب التركي الشهير “أورهان باموق” الحاصل على جائزة نوبل للآداب، بسبب إقراره في لقاءات إعلامية أُجريت معه، بحصول مجازر على أرض الأناضول بحق الأكراد والأرمن، حتى أنه إضطر الى ترك وطنه والإنتقال للإقامة في أميركا عدة سنوات خوفاً على حياته وعائلته.
خلافات داخل أرمينيا
من ناحية أخرى، أوجد توقيع إتفاقية “زيوريخ” إنقساماً بين يريفان (العاصمة الأرمينية) والطوائف الأرمنية في الخارج، حيث قال الرئيس الأرميني “سيرج سركيسيان” أنه واجه تجربة مريرة خلال جولته في مجتمعات الشتات الأرميني، وإصطدم في باريس ولوس أنجلوس وبيروت بمتظاهرين شرسين، وذلك قُبيل التوقيع على الإتفاقية في زيوريخ.
بالمحصلة، وعوضاً من أن ينتُج عن إتفاقية “زيوريخ” زيادة مساحة التقارب التركي الأرميني، حدث العكس تماماً، إذ زادت شقت الخلاف بين الدولتين واتسعت بشكل مضطرد خلال السنوات التي تلت توقيع الإتفاقية، ليصبح العداء أكثر حدة، وانعدمت بذلك أي إمكانية لتقريب وجهات النظر بين أنقرة ويريفان.
سياسة “العدالة والتنمية” الإنفتاحية
لقد كانت فرصة ذهبية حقاً، فحزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منذ عقدين من الزمن تقريباً، قام بجهود إستثنائية خلال العقد الأول لإرساء منهج تصالحي مع الجميع خاصة مع جيران تركيا، رافعاً شعار منظّر الديبلوماسية التركية أحمد داود أوغلو “صفر مشاكل”.
وبادرت حكومات العدالة والتنمية الى القيام بخطوات هامة لتحسين أوضاع المواطنين الأرمن فيها، حيث أعادت للأرمن ممتلكاتهم التي تم الإستيلاء عليها من قبل الدولة في الثلاثينيات، كما أعادت فتح كنيسة “أقدمار” التي تقع على جزيرة في بحيرة “فان”، وقامت بتوسيع نطاق الحقوق الإجتماعية والسياسية للأرمن في الترشح للمناصب، ما مكنهم من فتح المدارس وإدارة المستشفيات وغيرها من الأمور التي كانت محظورة عليهم فيما قبل حقبة العدالة والتنمية.
وخلال تلك الفترة أيضاً، أقدمت أنقرة على خطوات جريئة لحل القضية الكردية، وإيقاف نزيف الدماء المستمر منذ سنوات، وتوصّلت مع رئيس حزب العمال الكردستاني “عبد الله أوجلان”، المعتقل في السجون التركية، الى إتفاقية سلام نتج عنها إعلان الاخير إيقاف الكفاح المسلح ضد الدولة التركية.
لكن ولنفس الأسباب الآنفة، لم تستطع تلك المبادرة التاريخية الصمود أمام واقع مرير ومخضّب بالدماء، وسيلٍ من المشاريع السياسية والمصالح المالية المتداخلة بين أطراف عديدة على حساب الأتراك والأكراد والأرمن في آن معاً.
بعد ذلك تحول حزب “العدالة والتنمية” في العقد الثاني من حكمه الى إتباع إستراتيجية قومية متشددة، حيث طوت أنقرة صفحة المصالحات وإزداد عدد الأعداء لديها بشكل تدريجي.
وها هي أرمينيا وبسبب المواقف التي تُفرض عليها من “الدياسبورا” والقوى العظمى، تعيش منغلقة على نفسها في شبه عزلة عن جيرانها، حيث تقتصر علاقاتها على إيران فقط من بين الدول التي تتجاور معها في القوقاز، وترزح تحت وطأة أزمة إقتصادية قاسية منذ سنوات، كان من نتيجتها زيادة مخيفة في أعداد المهاجرين للهروب من هذا الجحيم.
فحسب إحصائيات عام 2000، كان في أرمينيا ثلاثة ملايين نسمة، بينما تشير الإحصائيات في السنوات الماضية الى أن عدد السكان انخفض ووصل الى مليون و200 ألف نسمة، يعيش معظمهم تحت خط الفقر! وتتحدث بعض الإحصائيات عن وجود أكثر من 200 ألف عامل أرميني يقيمون في تركيا بعد أن هجروا بلادهم.
المتفرجون على آلام الارمنيين
ومن ناحية أخرى، وقفت الدول التي تضغط على يريفان لتنفيذ سياسات تخدم أهدافها الخاصة، موقف المتفرج على آلام وجراح الشعب الأرميني إبان المعارك الأخيرة في إقليم “قره باغ” أو جمهورية “أرتساخ”، والتي أعادت الى أذهان الأرمينيين الذكريات المريرة عن المجازر التي حدثت قبل قرن تقريباً، مكتفية ببيانات شجب وإستنكار لا تغني ولا تسمن من جوع.
لذا فإن زيادة عدد الدول التي تعترف بالإبادة الأرمينية، ليس معياراً، لأنه لا يخرج عن السياسات التي تمارسها تلك الدول لتشديد الخناق على أنقرة، وربما تتغير مواقفها في حال خروج الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من الحكم وتصبح قضية الإبادة نسياً منسياً، بل أنهم قد يحملون الأرمن مسؤولية المجازر التي إرتُكبت ضدهم إذا تولى الحكم في تركيا من يرضون عنه وعن سياساته.