حرب “الإتفاقيات” في تركيا… إنقلاب جديد أم رسائل خارجية؟

لبنان عربي – صهيب جوهر
جاء بيان الضباط الأتراك المتقاعدين، الذي حمل تهديدا مبطناً للحكومة المنتخبة، بشأن “قناة إسطنبول”، ليعيد للأتراك الذكريات الدموية للانقلابات العسكرية، كما أثار تساؤلات حول سر غضبهم من إنشاء قناة تعزز السيطرة التركية على الملاحة في البحر الأسود، خاصة أن المتضرر الأساسي من القناة الجديدة هو روسيا.
وكان الرئيس رجب طيب أردوغان قد أعلن عن مشروع حفر القناة التي تبعد 30 كم إلى الغرب من قناة البوسفور “المضيق الطبيعي الذي يشق إسطنبول” عام 2011.
ومن شأن قناة إسطنبول تجاوز الوضع الحالي للمضائق التركية، التي تعد السيادة التركية عليها مقيدة نسبياً، جراء اتفاقية “مونترو” التي وقعت عام 1936 في عهد الرئيس التركي الراحل مصطفى كمال باشا الملقب بـ”كمال أتاتورك”.
وكان بيان قد أصدره 103 ضباط متقاعدين من القوات البحرية التركية، قد حذر من المساس باتفاقية “مونترو” الدولية، والبدء في مشروع “قناة إسطنبول” ومن مساعي الرئيس أردوغان لصياغة دستور جديد للبلاد.
وجاء في البيان “أنهم استقبلوا بقلق النقاش حول الانسحاب المحتمل من المعاهدة. كما قال إنه يجب على القوات المسلحة التركية التمسك بمبادئ الدستور الذي ينص على الالتزام بالعلمانية، على سبيل المثال”.
موقف مستفز الأتراك
وقوبل بيان الضباط الأتراك المتقاعدين، بردود فعل سريعة وحادة من الرئيس التركي والحكومة وأنصار حزب العدالة والتنمية، كون لغته هي نفسها التي استخدمت سابقاً لتسويغ الانقلابات أو التلويح بها.
أردوغان قال عقب اجتماع تقييمي عقده مع عدد من المسؤولين، إن كل هجوم على الديمقراطية في تركيا كان يبدأ ببيان مماثل للذي أصدره الضباط المتقاعدين، مضيفاً أن الشعب التركي سيرى من يقف إلى جانب الديمقراطية ومن يقف إلى جانب “الانقلابيين”.
ورأى مسؤولون أتراك أن البيان يمثل تحدياً مباشراً من الجيش للحكومة المدنية، فلقد اعتبرها المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن أنها “تذكّر بزمن الانقلابات”. كما قال عنها وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو إنها “أسلوب يستحضر انقلاباً”.
توقيف الضباط
وقد فتحت النيابة العامة تحقيقاً في الأمر، في حين قالت وزارة الدفاع إن بيان الضباط المتقاعدين يضرّ ولا ينفع، ويؤثر على معنويات الجيش.
وبوشر تحقيق في حق العسكريين المتقاعدين الموقعين على الرسالة بتهمة “الاجتماع للمساس بأمن الدولة والنظام الدستوري” على ما أوضح مكتب المدعي العام.
وأوقفت السلطات التركية يوم الإثنين الماضي، عشرة أدميرالات من الذين وقعوا على الرسالة.
وأفاد مكتب المدعي العام في أنقرة أن الأدميرالات العشرة المتقاعدين وضعوا في الحبس على ذمة التحقيق. ولم يُوقف أربعة ضباط سابقين آخرين بسبب سنهم لكن طلب منهم المثول أمام شرطة أنقرة في الأيام الثلاثة المقبلة.
وجاء في تغريدة لرئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألتون أنه “ليس فقط من وقّعوا بل أيضاً من شجّعوهم على ذلك سيمثلون أمام القضاء”.
من المتضرر من القناة الجديدة؟
والمعروف أن اتفاقية “مونترو” قد وقعت في أجواء التحضير للحرب العالمية الثانية، يوم كانت تركيا تخشى الصعود السوفيتي.
والمثير للاستغراب، أن هؤلاء الضباط السابقين يعترضون على حفر قناة إسطنبول، علماً بأن هذه القناة تحاول تلافي النتائج السلبية لاتفاقية “مونترو” التي أدت إلى تقييد السيادة التركية على المضائق، وقلّصت من حجم العوائد المالية التي كان من المفترض ان تحصل عليها الدولة التركية، وهو أمر دأبت الدول الأوروبية على ممارسته خلال الحقبة الاستعمارية، حيث كانت تحد من النفع المالي للدول الناشئة، حديثة الولادة.
واللافت هنا، أنه من يجب أن يعترض على قناة “إسطنبول” هي الدول التي ستؤدي القناة إلى تقليل استفادتهم من الامتيازات التي نالوها من اتفاقية “مونترو”، وهي الدول المطلة على البحر الأسود، وفي مقدمتها روسيا.
تفاصيل اتفاقية مونترو
وقعت اتفاقية مونترو في سويسرا عام 1936 بمشاركة الاتحاد السوفيتي وتركيا وبريطانيا وفرنسا واليونان وبلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا واليابان وأستراليا، وتتضمن 29 بنداً و4 ملحقات وبروتوكولاً.
وأتاحت الاتفاقية حرية المرور عبر مضائق البحر الأسود للسفن التجارية في أوقات السلم والحرب، وسمحت بمرور السفن الحربية لدول حوض البحر الأسود بدون أي تحديد.
ويشار الى أن الاتفاقية، تفرض العديد من القيود على حركة السفن الحربية، تتعلق بالبلدان غير المطلة على البحر الأسود، وبعض القيود على دول حوض البحر الأسود.
وتفرض اتفاقية “مونترو”، عدداً من الشروط المحددة القيود على حمولة السفن العسكرية، بحيث يحق للدول غير المطلة على البحر الأسود إجراء عمليات عبر السواحل الصغيرة فقط، على ألا يتجاوز إجمالي حمولتها 30 ألف طن.
وتسمح الاتفاقية لتركيا بحظر أو السماح للملاحة حسب تقديرها، إذا كانت حكومتها تعتقد أن البلاد مهددة بالحرب.
والحد الأقصى لفترة بقاء سفن الدول غير المطلة على البحر الأسود في هذا البحر هو 21 يوماً.
وعلى هذا الأساس فإنه في حال تجاوزت سفن الدول غير المطلة على حوض البحر الأسود للمدة المعينة (21 يوماً) فإن ذلك يعتبر إخلالاً بالاتفاقية الدولية، وبذلك تتحمل الدولة التي سمحت بعبور السفن (أي تركيا) المسؤولية المباشرة، حسبما ورد في تقرير لموقع “الجزيرة نت”.
أنقرة من جهتها تود، حسب مقال لقائد القوات البحرية السابق فتح أرباش، أن تُتخذ تدابير أكثر صرامة عند مرور السفن التي تشكل خطراً على البيئة، ومن بينها سفن نقل البترول ومشتقاته، فضلاً عن رغبتها بعوائد مالية أكبر من مرور السفن.
هل تطبق الاتفاقية على قناة إسطنبول أم تنسحب تركيا منها؟
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن سابقاً أن اتفاقية “مونترو” لن يتم تطبيقها على “قناة إسطنبول” المخطط لها، فيما أوضح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أن المشروع لا يهدف إلى انسحاب تركيا من اتفاقية “مونترو”.
ونفى تشاووش أوغلو في حوار مع وكالة “الأناضول” التركية، أن تكون قناة “إسطنبول” التي تعتزم تركيا فتحها، ستؤثر على اتفاقية “مونترو” (الخاصة بحركة السفن عبر المضائق التركية)، وقال إن الاتفاقية ليس لها تأثير كذلك على مشروع القناة.
وأشار إلى أن الذين يقفون وراء البيان لا يعنون منه اتفاقية “مونترو”، وإنما يستهدفون الرئيس أردوغان وحكومته وتحالف الشعب (يضم حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية).
فوائد قناة “إسطنبول “
ويعتبر مسؤولون أتراك أن القناة الجديدة تكتسب أهمية حيوية لتخفيف الضغط عن مضيق البوسفور في إسطنبول، الذي يعد ممراً أساسيا للتجارة العالمية عبرته العام الماضي أكثر من 38 ألف سفينة.
وتهدف تركيا إلى تخفيض الضغط على قناة البوسفور التي يعبرها ما بين 40 و42 ألف سفينة سنوياً، رغم أن طاقتها تسمح بعبور 25 ألف سفينة فقط.
وتظهر تقديرات اقتصادية تركية أن مشروع قناة “إسطنبول” المائية سيدر أرباحاً مالية كبيرة على تركيا تعوّضها عن الأموال التي حرمتها اتفاقية “مونترو” من جبايتها في مضيق البوسفور.
وتقول التقارير الرسمية إن القناة الموازية ستدرّ على تركيا نحو 8 مليارات دولار سنوياً، تساهم في تعويضها عن 10 مليارات حُرمت منها بفعل تسعيرة المرور المخفضة عن السفن التي تعبر مضيق البوسفور، تبعاً لاتفاقية “مونترو”.
وتشير البيانات إلى أن عائدات القناة الجديدة ستغطي خلال عامين فقط تكاليف المشروع البالغة نحو 15 مليار دولار، وستحوّل مضيق البوسفور التاريخي إلى خط ثانوي للتجارة البحرية مقارنة بالقناة الجديدة التي ستجتذب السفن والناقلات العملاقة.
وتنبع القيمة الأهم للقناة من عدم خضوعها لاتفاقية “مونترو”، مما يسمح لتركيا بجباية 5.5 دولار عن كل طن من البضائع وحمولات السفن التي تعبرها يومياً.
ووفقاً لمعلومات أوردتها وزارة التجارة التركية فإن القناة التي تربط شاطئ منطقة سليفري على بحر مرمرة بشاطئ كاراكوي على البحر الأسود، ستمنح تركيا أفضلية تنافسية في تجارة النقل الدولي التي يمر أكثر من 75% منها عبر البحار.
المعارضة ترفض المشروع
وسبق لرئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، التابع لحزب الشعب الجمهوري المعارض، أن قاد حملة معارضة شرسة لمشروع القناة، كما أشار في تصريح له إلى أن شق القناة ينتهك 7 اتفاقات دولية أهمها اتفاقية “مونترو”، حسب قوله.
وفتحت وزارة الداخلية التركية تحقيقاً بحقه على خلفية معارضته مشروع القناة.
وركّز التحقيق الذي تجريه مفتشية الممتلكات في وزارة الداخلية على ملصقات تحمل عبارة “إما القناة وإما إسطنبول” و”من يحتاج قناة إسطنبول؟”، حسبما ورد في تقرير لموقع “فرانس 24”.
في المقابل، أعلن وزير البيئة والتحضّر مراد كوروم أن القناة، التي ستسمح بمرور 185 سفينة يومياً بأمان، حصلت على تقييم إيجابي من 52 مؤسسة ومعهداً مختصاً، خاصة في قطاع البلديات ومن ضمنها مراكز تتبع لبلدية إسطنبول الكبرى.
ما علاقة بيان الضباط بمناورات الناتو؟
“بيان الضباط يهدف إلى حماية مصالح روسيا في ظل مناورات حلف الناتو في البحر الأسود”، هذا ما قاله الكاتب الصحفي المقرب من الحكومة طه عودة أوغلو لموقع “الجزيرة نت”.
إذ كشف النقاب عن الأسباب غير المعلنة لانتقاد الضباط المتقاعدين لإلغاء اتفاقية “مونترو” في ظل ما يحدث حالياً بأوكرانيا، فإلغاء الاتفاقية سيضر روسيا التي تقع ضمن حوض البحر الأسود ويعطي تعزيزا لوضع الأميركيين.
ولفت عودة أوغلو، إلى أن “خلفية الضباط الموقّعين على البيان من “اليسار الأتاتوركي” الجناح المقرب من روسيا ومن الصين، وبالتالي فإن الدافع الأهم لتوقيت هذا البيان هو التطورات الموجودة في أوكرانيا والتوتر بين روسيا والناتو”.
وأوضح الكاتب التركي أن “جناح “اليسار الأتاتوركي” أو “الأوراسي” قوي جداً بالجيش التركي وفي وزارة الخارجية، لكنه ضعيف في السياسة وأجهزة الدولة الأخرى، ودائماً ما يعمل هذا الجناح على إبعاد تركيا من الناتو والعمل على إنشاء تحالفات مع روسيا والشرق”.
وأشار الى أن بيان الضباط المتقاعدين “يشبه بياناً صدر عام 2007 قبل انتخاب الرئيس عبدالله غل منتصف الليل، أي نفس اللغة التي يستخدمها الانقلابيون في البلاد على مدار السنوات الماضية، الأمر الذي استدعى ردود فعل قوية من قبل الحكومة والشريحة المؤيدة لها على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين غابت المعارضة عن الرد”.
من جهة ثانية، تؤكد تركيا أن الاتفاقية لن تطبق على قناة “إسطنبول”، (مع استمرار سريان الاتفاقية على المضائق التركية)، فإن هذا يعني أن سفن دول الناتو إذا دخلت للبحر الأسود لن تكون تركيا ولا دول الناتو ملزمة بإخراجها خلال مهلة الـ21 يوماً.