ثقافة

رأيتُكَ كما رَأيتَ رام الله…!

لبنان عربي – مروان الخطيب

-إلى الشَّاعر الرَّاحلِ مُريد البَرغوثي-

قالَ ذاتَ يومٍ، مُشْهِراً العلاقةَ الوجدانيَّةَ بينَ الوردةِ والقَهْوةِ:

“القهوةُ كالوَرْد”، وفي هذا فَلسفةٌ شاهقةٌ لِدِلالاتٍ عميقةٍ ترقى إلى فحاوى الإنسانيَّةِ في مُستوياتِ تبايناتِها العِرقيَّةِ، وفي مجالِ انصهارِها الرؤيويِّ في النَّظرةِ المُتَوحِدَةِ إلى عينٍ جامعةٍ من عُيونِ الدُّنيا العديدةِ…، وكأنِّي بِمُريدِنا وشاعرِنا وأديبنا البَرغوثيِّ، يُعلنُ شِعارَ إنسانيَّةٍ شَمول، تتعدَّى الحُدودَ والأعراقَ، إلى سِفرِ الجِبِلَّةِ عَبْرَ رمزيَّةِ الوَردِ المُسْقَطةِ على القهوةِ وانصهارِها المُتمَاهي مع جَدليَّةِ الرِّغابِ المُنْصَهِرةِ في طِينِ الاشتهاءِ والانتماءِ للذَّاتِ المُستَغْرِقةِ في زمانِها، وفي يقظتِها وسُباتِها الفِطْرِيَين، لِيُؤكِّدَ في المَجالِ ذاتِهِ رؤياهُ النبيلةَ التي تصرخُ هامسةً حَدَّ البوحِ والعِشق: إذا فَرَّقَتنا الثقافاتُ والحَضاراتُ، فَيُمكنُ أنْ تَكونَ كُوَّةُ الوردِ والقهوةِ، مَعْبَراً ابتدائيَّاً لِتَواصلٍ افتراضيٍّ، يبدأ منَ إحساسِ الفِطرةِ والحُبِّ، ثُمَّ يرتقي إلى مباحثِ العَقلِ والفِكرِ، وصولاً إلى أصالةِ الانتماءِ إلى هُويَّةِ الخَلقِ، فننغرسُ في جُذورِ الأصالةِ التي أشارَ ورمزَ إليها عَبْرَ مُفردةِ”القهوة”، التي جاءتِ في سياقِ الدَّمجِ مع مُفردةِ “الورد”…، لكأنَّ المسافةَ القائمةَ بينَ هاتينِ العَينين، هي تلكَ القائمة بينَ العقلِ والقلب، أو بينَ الفِكرِ والوجدان…!.

والقارئُ في أدبِ راحِلِنا المُريد، يرى أثرَ المنفى صارخاً بينَ الحروفِ والكلمات، كما يتألقُ الحنينُ بينَ شَهقاتِ الأنفاسِ أمداء مسكونةً بذاكرةِ المكانِ الشاهقِ فوقَ الكيدِ والقيدِ والاحتلال!.

هو ذا مُرِيدُنا، يتعالى فلسفةً من زنبقٍ وياسمين وقَرَنفُل، ويأبى التجانسَ مَعَ الغاصبِ اللَّعين، وينشدُ في رؤاهُ الشِّعريَّةِ والنَّثريَّةِ، ما نشدهُ إدوارد سعيد في سُكوبِهِ المعلوليةِ كالجُلَّنار!.

ها نحنُ غارقونَ في أملنا بعدَكَ أبا تميم… نستلقي في مراقي الحُلمِ ظلالاً من نخيلٍ وزيتونٍ وزيزفون… ونتشهى ذلك الآتي على هيئةِ ما كان يومَ انتصرَ الجمعُ الغفيرُ لشهادةِ يحيى عليه السلام!.

ها أنتذا، ترحلُ عنَّا في زمنِ الانحطاطِ والضُّمورِ والتقهقرِ السياسي، وترسمُ لنا في أدبِكَ ناصيةَ الانصياعِ للحقِّ، ولرام الله على صورتِها البِكريَّةِ المُخَلَّصَةِ من أدرانِ أوسلو وجِنرالِ الإفكِ دايتون…!.

ترحلُ عنَّا، أيُّها المُريدُ المُلْهَمُ… ويبقى حرفُكَ حِزمةَ شوقٍ لهوبٍ إلى فلسطينَ الرؤيا، والمسافة الممتدةِ من النقب إلى الناقورة، ومن نهر الأردن، إلى شَغافِ النوارسِ في عكا ويافا…!.

ترحلُ عنَّا سَكُوباً في مَراقي البركاتِ… ويمتدُّ حُضورُكَ شَموخَاً عَبْرَ أدبِكَ الرَّفيعِ الفينان، وفي صوتِكَ الإبداعيِّ المُستَمرِّ مع تميمكِ الصَّاعدِ ألقَ الرؤى والكلمات…!.

ها أنذا أتبصَّرُ سِيْرتَكَ الأولى،

أقرأُ أورادَكَ،

أشعارَكْ،

و المنفى في حُمَّى البُلدانْ،

أتناهى وَرداً في دَرْبِكْ،

وذُؤابةَ فجرٍ للمَرجانْ،

أقرأُ فاطمةً،

جفرا،

ذاكرةَ التَّكوينِ،

وَعِشتارَ يُناجيها الطُّوفانْ،

وأرى الحُلْمَ الأسمرَ،

يستيقظُ في رابعةِ الشَّمسِ،

ويقتاتُ شَتاتاً وحُروفاً،

والقمحَ مُذاباً كنبيذٍ،

يتأتى من زهرِ الرُّمانْ…!.

يَاْ “مُرِيدُ” الآتي من طِينِ الشَّامِخِ كِنْعَانْ،

مِنْ حَنْجَرةِ الفَينيقِ السَّاجدِ في رام الله،

السَّابحِ غيثاً جَادِيَّاً في جنَّاتِ الرُّؤيا،

فوقَ القُدسِ،

وفي مُنتصفِ الشَّوقِ إلى بَيسانْ،

لا تتركْنَا في دَيجورِ هِيروديا،

في الإفكِ الأعمى،

في الفتكِ الهاوي للذَّيفانْ،

خُذْ بيدينا نحوَ البحرِ السَّابحِ في عَكَّا،

في حيفا،

في يافا،

كي نحيا سِيرَتَكَ الأولى،

ونصيرَ الدَّربَ العُليا،

بينَ الصُّبْحِ النَّابُلسيِّ،

وَبينَ الفدوى والمَيْسَانْ…!.

ياْ “مُريدُ” العابقُ بالذِّكرى،

خُذنا للصُّلحِ الأسنى،

ذَيَّاكَ الجامعِ سَلجوقَ إلى بُوطانْ،

والعاقدِ رُوح الحُبِّ الأصفى،

بينَ الشَّامِ وبَغدانْ،

والطائرِ نصراً وإباءً،

بوحاً أخضرَ في كُلِّ الدُّنيا،

يحملُ سِفْرَ الحُبِّ خصيباً،

شِعْراً من لازوردٍ،

يُحيي جبلَ النَّارِ صلاةً،

ويكونُ سُلافاً،

وسلاماً للإنسانْ…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى