ثقافة

لبنان… الريفُ في المدينة

لبنان عربي – طارق المبيض

منذ قرنين من الزمن، اتّبعت الدول الأوروبية خطةً تقضي بحصر التجمعات السكنية في مساحةٍ جغرافية محددة، سواء كانت تلك المساحة مدينة أو بلدة، وعند زيادة عدد سكان تلك الوحدات السكنية يتم توسيعها بناء على خطة تتضمن تأمين الخدمات الأساسية والبنى التحتية والكادر البشري اللازم لإدارة التوسع الجديد.

هذه الخطة تهدف الى خفض الإنفاق على البنى التحتية، والمحافظة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الزراعية والمساحات الخضراء، إضافةً الى ضبط المجتمع أمنياً واجتماعياً بشكل أفضل، ناهيك عن ضرورة وجود القوى العاملة على مقربة من المصانع على أطراف المدن والأسواق التجارية في وسطها.

دولٌ أخرى اتّبعت المبدأ نفسه. الصين مثلاً تسعى لأن يبلغ سكان الأماكن الحضرية نحو 75% من السكان في عام 2050، وهم يشكلون الآن نحو 60% فقط من إجمالي عدد السكان. ولكن التوسعات في الأماكن الحضرية كما سبق وذكرنا يجب أن يسبقها نمو في الاقتصاد، وإلا فإن التوسع العمراني المنتظم سيتحول الى أحزمة بؤس، كما في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية التي تحقق معدلات نمو خجولة.

وفي تلك الصفائح تضيع المدينة، فتتحول الى ريفٍ بمكعبات اسمنتية كبيرة، وبعجز لدى سكان تلك الأحزمة عن تأمين مستلزمات الحياة الضرورية، خصوصاً مع غياب البنى التحتية المناسبة، والفوضى العمرانية التي تحوّل تلك الأحياء الى مرتع للخروج عن القوانين، ومسرحاً لنمو آفات إجتماعية خطيرة مثل إدمان المخدرات، وتشكيل العصابات وغيرها.

لبنان هو من تلك الدول التي لم تحقق توازناً بين نمو المدينة سكانياً وتأمين البنى التحتية اللازمة لها، بموازاة غياب النمو الاقتصادي الذي أكثر ما يؤثر على أحزمة البؤس في تلك المدن. هذا الأمر يتّضح جلياً في ضواحي بيروت. يمكننا ملاحظته بشكل واضح في أزقة ضاحية بيروت الجنوبية، وبعض أحياء ضاحيتها الشمالية في منطقة المسلخ على سبيل المثال.

وفي المدينة الثانية من حيث عدد السكان، أي طرابلس يتّضح الأمر بشكل أجلى، فهناك أحزمة بؤس تحيط بالمدينة من كل جانب، من جهتها الشمالية في باب التبانة، وفي جهتها الشرقية في أحياء من القبة وأبي سمراء، وللجهة الجنوبية في مناطق باب الرمل، كما ينتشر حزامي بؤس في منطقتين في الميناء هما المساكن الشعبية وحوش العبيد. وقبل أن نستمر بالحديث عن طرابلس الريف، لا بد أن نتحدث عن مشكلة أخرى طبعت مشكلة المدن في لبنان، وهي الانقسامات الطائفية التي حولت المدينة اللبنانية الى ضيع طائفية مختلفة.

الضيعة اللبنانية التي تكون غالباً ذات صبغة طائفية واحدة. وعندما نزح أبناؤها الى المدينة، سكنوا في أحياء خاصة بهم. المسيحيون انتشروا في برج حمود والأشرفية. الشيعة في ضاحية بيروت الجنوبية. السنة النازحون من قراهم سكنوا مع أبناء المدينة السنة في الطريق الجديدة.

وفي طرابلس حيث الموضوع يختلف بعض الشيء، فهذه المدينة ذات الغالبية السنية خرج منها المسيحيون خلال فترة إمارة التوحيد بين عامي 1983-1985، إثر مضايقات من حركة التوحيد، وسكنوا في مناطق الكورة وضواحي بيروت، بينما يستمر وجودهم ببعض الشوارع والأحياء في الميناء. في هذه المدينة هناك حي جبل محسن ذي الغالبية السكانية من الطائفة العلوية.

هذه التقسيمات في المدن اللبنانية تهدد السلم الاهلي بشكل كبير. وكانت هذه التقسيمات المجتمعية الأحيائية إحدى الأسباب التي أبقت الحرب الاهلية اللبنانية مشتعلة لمدة 15 عاما (1975-1990)، وهي المسؤولة كذلك عن كل المعارك التي شهدها لبنان بعد عام 2005، ومنها معركة 7 أيار في بيروت، واشتباكات جبل محسن وباب التبانة بين أعوام 2008-2015، إذ تشكل هذه البيئات الطائفية داخل المدن فرصة للأحزاب السياسية لتجنيد العاطلين عن العمل لمصلحة أهداف سياسية معينة، كما أنها تشكل بيئة صالحة لاختفاء المطلوبين من القضاء اللبناني.

عالم الاجتماع الفرنسي “ميشال سورا” وأثناء إقامته في باب التبانة سنة 1981 وما بعدها، خرج بنظرية تستحق الدراسة والانطلاق منها لدراسات أخرى في أحياء طائفية مدنية أخرى في لبنان، هذه النظرية التي نُشِرت فيما بعد بكتابه “سوريا الدولة المتوحشة”[1]، بفصل مخصص عن حي باب التبانة في طرابلس، يخلُص فيها الكاتب الى وجود مصطلحين أساسيين هما: “الحارة الأمة” و”مشيخة الشباب”.

“الحارة الأمة” حيث يرى سكان هذا الحي الفقير أنهم جزء من أمة كبيرة، ومن هذه الحارة أو الحي سيحلون مشاكل الأمة جمعاء. و”مشيخة الشباب” تتلخص بوجود حزمة “قبضايات” من خلفيات ريفية، أو نازحون من مدن أو دول أخرى، يتسنى لهم في ظل الوضع الفوضوي في أحزمة البؤس تلك قيادة الشباب في معارك بعيداً عن أعين الدولة التي تغيب عن أحزمة البؤس تلك.

نظرية “سورا” وإن كان قد صاغها في حي باب التبانة، إلا أنها موجودة في كل حي طائفي بكل مدينة في لبنان. وللمفارقة يستخدم حزب الله نفس الأدبيات في بيئته الحاضنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، ويمكن الحديث عن نفس التركيبة التي جاء بها “سورا” أيضاً خلال الحرب الأهلية اللبنانية لدى المليشيات المسيحية في بيروت.

هذه التقسيمات الأحيائية تخلق مجتمعات مغلقة عن بعضها البعض، تماماً كما في الضيع الطائفية اللبنانية. هناك خوفٌ من الآخر بسبب عدم الاندماج معه. في الحي يتم التعامل مع أشخاص من خلفية طائفية وإجتماعية مشتركة، في المتاجر والمحترفات والمقاهي والأسواق، وهناك نظرة مشتركة تجاه الحي الآخر، فهو حي الى حد ما عدو، وحين يدخل “غريب” الى حي آخر غير حيه ينظر اليه السكان نظرة مختلفة، وربما يراقبون تحركاته خوفاً منه.

سنة 2009 وأثناء عملي في إحدى شركات الإحصاء أيام الجامعة، دخلنا الى حي طائفي في منطقة ضواحي بيروت، بعد دقيقتين فقط تجمع حولنا “الشباب” وسألونا عن هوياتنا وعن أماكن إقامتنا، وبعد أن علموا أننا من بيئة طائفية مختلفة تم طردنا من الحي ومنعنا من العمل.

في طرابلس، الوضع مختلف قليلاً، إذ أنه باستثناء الحي العلوي في جبل محسن، هناك بيئة طائفية واحدة في المدينة. لكن التفاوت الاجتماعي حاد جداً بين طرابلس الشرقية، التي تمتد من التل الى أحياء عزمي والضم والفرز والمئتين والمعرض، وبين طرابلس الغربية التي تمتد من التل الى أحياء الزاهرية وباب الرمل والمنكوبين والقبة وأبي سمراء والأحياء الشعبية. يمكننا الحديث عن مدينتين. وإذا عدنا للأقمار الصناعية لوجدنا اختلافاً واضحاً بين تلك المدينتين، من حيث التنظيم العمراني وكثافة السكان. وإذا نزلنا الى أرض الواقع هالنا التفاوت في المستوى المعيشي والتعليمي والاقتصادي.

يتحدث الباحثان عاطف عطية ومها الكيال في كتابهما “طرابلس من الداخل” عن أرقام مخيفة للأمية، وبالتحديد بين الإناث في منطقة الأسواق والأحياء الشعبية في طرابلس، وعن مستويات معيشة متدنية للغاية ومستويات مخيفة للإعالة.

إحدى الإسباب الأساسية لتلك المشكلات هو نمو المدينة دون أن يترافق ذلك النمو مع خطط تنظيم مدني، ونمو اقتصادي معقول، إضافة الى عوامل طبيعية منها طوفان نهر “أبو علي” في خمسينيات القرن الماضي، والحرب الأهلية اللبنانية.

هذه العوامل راكمت البؤس في تلك الأحياء، وخلقت مجتمعات مغلقة شكلت بيئة صالحة لنمو زمرة من “القبضايات” الذين يمتهنون تجييش الأتباع لصالح رجال السياسة، ويقومون بأعمال مخالفة للقانون، إضافة الى كون تلك الأحياء بؤر للتوتر الطائفي، حيث يزيد معدل الفقر المرتفع، وتنخفض نسبة الوعي والتعليم، لصالح زيادة الروح العصبية لدى فئة الشباب، وهذا ما ظهر جلياً خلال المعارك مع حي طائفي اخر هو جبل محسن.

 

[1] ترجمة الكتاب لبرهان غليون عن الشبكة العربية للأبحاث سنة 2017، والكاتب الفرنسي تعرض للخطف في بيروت عام 1985، ومن ثم تم تسليم جثته عام 2005.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى