
لبنان عربي – طارق المبيض

تميل أدبيات معظم الناس في بيئتنا العربية الى التسطيح والتعميم. فبإمكان رواد المقاهي ووسائل التواصل اختراع نظريات مؤامرة أمريكية لم تكن لتخطر ببال الأمريكيين أنفسهم. خيالاتٌ جامحة تُعطي الخصم قدرات هائلة لا يملكها هو أصلاً، ثم تحتمي تلك الخيالات بادعاءات ليس لها أصل في الدين، تُصرح بأن الله يهلك هذه الأمة او تلك ويبعث عليها الأوبئة لظلمها وجبروتها. ونحنُ اذ نؤمن بالله عز وجل الخالق الموجد لكل ما في هذا الكون الفسيح، لا يمكننا الا ان نحلل بما أكرمنا من عقل ذلك الخطاب الذي انهار عليه السقف في أقل من شهر بعد أزمة كورونا. وها هم أصحاب الخطاب يدورون بالرحى دائرةً مغلقة لا يستطيعون الفِكاك منها.
عندما ظهر الفيروس بادئ الأمر في مدينة ووهان الصينية، بدأ العقل العربي يتفتح على تحليلات لا تمت للواقع بصلة، ولم يثبتها العلم على الأقل حتى ساعة كتابة مقالتنا هذه. فلقد انبرى بعضهم لاعتبار أن الفيروس جند من جنود الله أرسله الله الى الأمة الصينية بسبب ظلمها لمسلمي الايغور، وان هذا الفيروس رسالة لعلهم يعقلون، وهذا الخطاب تبناه الجمهور العربي الذي لا تربطه علاقات وثيقة مع الصين. فيما توجه قسم اخر لاعتبار أن الفيروس مصنّع من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي اي” بهدف وقف التقدم الصيني (هذا الطرح تبناه الجمهور الموالي لايران في المنطقة بحكم التقارب الصيني الايراني). فيما ذهب قسم ثالث الى تحليل الفيروس بمِخبره البيتي ليقول بأنه ناتجٌ عن أكل الصينيين للحوم الأفاعي والجرذان والخفافيش.
فلنبدأ من الطرح الأخير، لنقول بأن العلم لم يثبت حتى ساعتنا هذه سبب تطور الفيروس واذا ما كان ناتجاً عن اكل لحوم هذه الحيوانات المفترسة والقوارض، وانما هناك فرضيات متعددة، أهمها المخالطة اللصيقة للحيوانات، او ملامسة الأغذية الملوثة. غير ان منظمة الصحة العالملية تقول بـ “اننا ما زلنا في مراحل مبكرة جدا من فهم هذا المرض”، لذلك فان كل التحليلات السابق ذكرها لم تثبت حتى الساعة. مع العلم أنه لا مانع من أن يسبب اكل تلك القوارض والحيوانات المقززة أمراضاً اخرى. لكن في حالة الكورونا ليس هناك من دليل حتى الساعة.
أما الطرح الذي يقول بان الفيروس مصنع امريكيا في اطار الحرب البيولوجية مع الصين، فذلك امر ممكن علمياً ولكن ليس من العدم بل من فيروسات هي موجودة اصلا في الطبيعة. ولكن نتائج ذلك الفيروس تثير الشكوك حول هذا الطرح، اذ ان الاصابات في الصين تراجعت مؤخرا بشكل هائل، في مقابل انتشار لهذا المرض في داخل الولايات المتحدة الامريكية نفسها، وحصده لخسائر فادحة في السوق المالية، اضافة الى طلب الولايات المتحدة المساعدة من الصين في تصدير كميات هائلة من المعقمات والكمامات الطبية الى الداخل الامريكي لمواجهة المرض. وهذا يؤكد المؤكد، بأن العولمة التي يعيشها العالم الان تقتضي التعاون بين الدول، لان التعثر سواء كان اقتصاديا او صحيا لن يطال دولة واحدة بل سيعم العالم اجمع بفضل ثورة المواصلات.
نعود الى الطرح الأول والذي يقول بأن هذا الفيروس هو عقاب رباني من الصين لممارساتها تجاه اقلية الايغور المسلمة. هذا ما يسمى التسطيح والتعميم. التسطيح بأن قسما من الناس لا يريد شغل نفسه بقراءة خريطة الكرة الارضية بهدوء. لا يريد أن يرى ملايين المسلمين الذين قتلوا على يد المسلمين باسم الاسلام والدفاع عن الدين. لا يريد ان يرى الذبح والقتل والتفجير والتهجير. لا يريد ان يرى القمع الذي يمارس حتى في الدول التي ترفع راية الاسلام. بل يذهب في خياله بعيدا ليقص ويلصق كما يحلو لمخيلته. هذا من جهة. اما من جهة أخرى فإن الفيروس قد تعدى الصين، وربما تكون الصين اليوم قد اشترت الوقت لأجل العالم خلال مكافحتها الفيروس، وتسخيرها لمئات مليارات الدولارات بهدف ايجاد لقاح له، وأفادت العالم كله من تجربتها في مكافحة هذا الوباء، بدليل ان الدول ومنها الولايات المتحدة والدول الاسلامية بدأت تستعين بالصين وخبراتها في مكافحة هذا المرض. وبعيدا عن ذلك، فلقد شهدت مكة المكرمة والمدينة المنورة حالة منع سفر اليها وذلك لمحاصرة المرض. ومن قاموا بهذا الاجراء بطبيعة الحال هم عقلانيون لأنهم ساهموا في التقليل من نسبة الاصابة في هذا المرض، وهذا حفظ للنفس وهو أعلى مقاصد الدين الاسلامي.
وان كنا ناقشنا ناحية تعاطي بعض المسلمين مع الأزمة الصحية فذلك لاننا نعيش في بيئة عربية معظمها تتبع الدين الاسلامي. لكن الامر لا يختلف كثيراً لدى قسم من المسيحيين الذين تعاطوا مع الأمر بطريقة غير علمية. ففي اتصال مع اذاعة صوت لبنان صباح الثاني من اذار الجاري، قالت سيدة مسيحية أنها رأت القديس مار شربل في المنام، وانه طلب منها الذهاب الى مقامه واخذ شيء من ترابه مع ماء مصلى عليها الى مستشفى الحريري الحكومي الجامعي حيث يعالج مرضى الكورونا، واعطاء هذه الوصفة الى الطبيب المختص وبعدها سيشفى المرضى من هذا المرض الخبيث. وبالفعل قامت السيدة بتنفيذ ما ورد في الرؤيا، لكن المستشفى رفضت استقبال التراب والماء، وهذا ما خلف ردة فعل متباينة في الشارع اللبناني بين مؤيد ورافض.
نعود من حيث أتينا، لنقول بأن لا غنى للعرب عن العلم، واتخاذه سبيلا لحل مشاكلهم في كافة المجالات. حري بنا أن نكون موضوعيين مع انفسنا، وأن نمد جسراً من الحوار مع الأمم الأخرى، فنستفيد من تجاربها. لا يبدو أن أحداً يتآمر علينا، فمن يفكر في ذلك يكون مختلا عقلياً بالطبع، لأنه يضيع وقته في أمة تتآمر على نفسها ليل نهار.