مجتمع وميديامحليات

التعلّم…عن حُب وبحب

لبنان عربي – جوليانا محمد علي

منذُ حوالي أسبوعين تقريباً، طُلِبَ منّا في إحدى الجلسات التدريبيّة، والتي أُجريَت عن بُعد مع أستاذ اللغة الانكليزيّة، التحدّث عن تجربة منافسة قُمنا بالمشاركة بها في المدرسة أو في الجامعة .

حيثُ يُترَك لكل طالب مدة دقيقة واحدة للتفكير ودقيقتين للتحدُّث، يشرح المتدرّب بعدها عن نوع المنافسة (علميّة، تربويّة، رياضيّة ..)، نوع الجائزة وسبب اختيارنا لخوض هذه التجربة أو المنافسة.

فكّرتُ قليلاً وقرّرتُ أن أتحدّث عن تجربة علميّة شاركتُ بها في الثانوية، أعتبرها من أهم وأفضل ما شاركتُ به في مسيرتي التعليميّة والتي تركت فيّي أثراً كبيراً.

 كان ذلك، في الصّف الثاني ثانوي، عندما دعى استاذ مادة الاقتصاد ثلاثة طُلاب للمشاركة بندوة علميّة بعنوان  GATT(الإتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة) يتنافس فيها الطلاب حول أفضل تقديم وأداء ومحتوى. يُصرَف للطالب الفائز، جائزة مالية بحسب على ما أذكر بلغت خمسين دولاراً، تقرر منحها لجنة علميّة بعد أن تجري تقييما لآداء المشاركين الذين عليهم تحضير مشاركاتهم خلال أسبوعين.

 لم أذكر اني ترددتُ لأي لحظة في التفكير، وبسرعة تسجلت وسجّل معي اثنين من الطلّاب. كنتُ شغوفة جداً بمادة الاقتصاد وكنتُ أنتظر النشرة الاقتصاديّة بشوقٍ لمعرفة آخر المستجدات في عالم المال والاقتصاد، الاحداث والازمات الاقتصاديّة في لبنان والعالم.

كنتُ أتطلّع لأن أدخل في المستقبل عالم البيزنيس وادارة الاعمال. في اليوم ذاته، بدأتُ البحث والتحضير للموضوع حتى أنني أذكر جيّداً أنه لم يكن لديّ أي تصوّر عن حروف الاختصار التي تشكلت منها كلمة GATT ولكن حبي لاكتشاف ومعرفة كل جديد عن الاقتصاد كان شغلي الشاغل في تلك الفترة.

 وضعتُ تصوّراً أوّلياً (التعريف، تاريخ الانشاء، الأهداف،..) وحاولتُ أن أُعِدّ ما يسمى بالملخص، أجمع فيه كل النقاط التي أرى أنه من المفيد ذكرها، وتدربت على ألّا أتجاوز الوقت المحدد للعرض ألا وهو عشر دقائق.

 كان ذلك بمثابة بحث جامعيّ، اذ انه ليس التحدّي بأن تسرد كل ماحصلت عليه من معلومات حول الموضوع، لتوفر ذلك على الانترنت، ولكنّ التحدّي هو أن تعرض ما تراها “ضرورياً ” و “يفي بالمضمون”، بالإضافة الى ربط كل ما جمعت من معطيات بالاحداث الاقتصادية وأثر ذلك في عالم الاقتصاد.

 إنّه يوم الخميس، كانت الحصّة الاولى، القاعة منظّمة بطريقة مميّزة، تشبه تماماً قاعة المؤتمرات. تحضّرَ الطلّاب واستعدّت اللجنة.. ليبدأ العرض.

الطّالب الأوّل كان قد أعدّ فيلما صغيرا “فيديو” أضاف اليه صوته، دون أي مداخلة منه، واستمع الجميع، وحان دور الطالب الثاني الذي قدّم عرضه عن طريق تقينة “الباوربونت”، اي “العرض التقديمي” ، سرد خلاله بعض الفقرات حول الموضوع.

 ليبدأ دوري.. في الحقيقة، لم أعتمد على أي من هذه التقنيّات وفضّلتُ الإستعانة بورقة دوّنت عليها العناوين العريضة للأفكار التي أردت أن أعرضها اضافه الى بعض التواريخ للحفاظ على تسلسل الافكار.. كان لوقفتي أمام اللجنة والطلاب رهبة خاصّة، في كل ما تعنيه الكلمة من معنى، خاصّة وأنّها المرة الأولى التي سأقف فيها أمام لجنة لتقيّم أدائي، لربما أرتبك، أو أنسى الترابط أو اي شيء يمكنه أن ينسف كل الجهود التي بذلتها في اسبوعين.

 أشار اليّ الاستاذ بالبدء، فبدأتُ معرّفة بنفسي، عرضت العنوان، عرّفت بالموضوع، وبدأت أغوصُ، وأناقش جوهر الاهداف التي نشات لأجلها منظمة GATTوأثرها في التجارة الدوليّة، وانهيتُ بتناول الشق الاجتماعي وعلاقة ذلك بالبطالة والفقر وفرص العمل. 

كنتُ أتحدّث وكأنني أحاضرُ أمام باحثين وليس طلّاب؛ أمام لجنة بحثيّة وليس أمام أساتذة تم اختيارهم كلجنة لتقييم الاداء. كنتُ أناقشُ وأضيف ما أراه ضرورياً لدعم الافكار كي تصبح أبسط وأقرب للمستمعين. استحضرتُ كل ما أعرفه عن الموضوع لأكون جاهزة لأي استفسار او سؤال حتى أنني نسيتُ أنني في منافسه.

شعرتُ وكأنني فُزتُ حتى قبل صدور النتيجة لأنني اعتبرتُ أنّ ماقدّمته كان كفيلاً بأن يصل لكل المستمعين حتى لو لم يكن ذلك من اهتماماتهم. كنتُ راضية عن نفسي كثيراً وشعرتُ بأن ذلك يكفيني، لقد قدّمتُ وبكل تأكيد أفضل ماعندي. ولكنّ المنافسة لا تنتهي بعد تقديمك للعرض…

  جاء دور لجنة التحكيم المؤلفة من أربع اساتذه متعددي الاختصاصات. صوّت الاستاذ الأوّل للطالب الاول، معتبراً أننا في عصر التكنولوجيا وعلينا أن نستخدم الوسائل الجديدة في العرض والتقديم، ليسانده الاستاذ الثاني ويعطي صوته ايضاً للطالب نفسه، قائلا:” وانا أيضاً أوافقك الرأي، التكنولوجيا هي التي تتحكم الآن”.

 كيف ذلك؟ اين علامة الشرح المفصّل؟ علامة الحضور؟ وأين العرض؟ نحن فقط نستمع الى فيديو يصدر صوتاً، والطالب لم يتفوّه بأي كلمه!!  قلتُ في نفسي. ليأتي دور استاذ الكمبيوتر أحد اعضاء اللجنة، ليصوّت للطالب الذي استخدم “الباوربونت”، مبررا تصويته بإستخدام الطالب مهاراته الفنيه التي ساعدته بتقديم عرض جميل.

حسناً، ربما إنهم يصوّتون للتكنولوجيا وليس للمحتوى، هكذا حادثت نفسي مرة أخرى.

ليأتي دور معلّمة اللغة الانكليزيّة التي قالت :”اسمحوا لي أن أخالفكم الرأي هذه المرة وأقول وبكل صراحة لقد استطاعت جوليانا أن توصل لنا ما لم تستطع التكنولوجيا ايصاله، اني وبكل صراحة أقول، لم أفهم جوانب الموضوع الا عندما قامت هي بعرضه، تقصدني بكلامها،  لقد تناولت الموضوع بشقيه الاقتصادي – الاجتماعي والتاريخي وهذا مذهلٌ للغاية حتى وأنها لم تنسى ان تنهي بكلمة أخيرة وابداء وجهة نظرها. لقد عرضت الموضوع بكل تفاعل وحيويّة، لو دققتم جيّداً ستقدّرون معنى أن تكون طالباً وتقف هذه الوقفه التي تشبه وقفة المتحدثين في المؤتمرات، انها وبكل جرأة استطاعت ان توجز وبعشر دقائق  كل جوانب الموضوع، انظروا الى الثقة بالنفس التي تحدثت بها! لذلك أنا أعتبر ما قدمته رائعاً للغاية وسأعطي صوتي لها”.

 لقد كان ماقالته كافياً لأعرف أن آدائي صحيح واني فعلاً استحق..ساندها استاذ المادة وقال:” اني أؤيد ماقُلتيه، التكنولوجيا وجدت لخدمتنا وليس لتحلّ مكاننا، وبالنظر الى الوسيلة التي اعتمدت عليها، اذ فضلّت أن تكون محاضرة وتعتمد على مهاراتها في الالقاء، بدلاً من فيديو او ملف يتم عرضه، وهذا يَصعُب في بعض الاوقات على الاساتذة في المدرسة او في الجامعة، لذلك فأنا أقول أيضاً أن أداءك كان ممتازاً!!  وأعطى صوته لنا نحن الثلاثة، على أن تكون النتيجة ٣ أصوات للطالب الأوّل وصوتين لي ولزميلي الآخر. ليفوز الطالب الذي حصل على ٣ أصوات.

  كنتُ أوّل المصفقين، ولم أهتم أبداً للنتيجة، وكنتُ فرحةً للغاية،  لقد كانت فرحتي في نفسي تفوق الجائزة بأضعافٍ مُضاعفة.  كل رفاقي شعروا بأنه كان ثمة شيء من الظلم بالنسبه لي. لقد أعجبوا كثيراً بما قدمته وشعروا بأن الامر لم يكن بحاجة لعدد من الاصوات كي اربح؛ فأدائي أذهلهم فعلاً.

لم انسى ماقالته لي معلمة اللغة الانكليزية عندما انتهينا “تهانينا لكِ، أراكِ من كبار المتحدثين في المستقبل، انت فعلاً تستحقين أن تصبحي أفضل معلمة ومحاضرة “. وأستاذ المادة الذي قال لي” انّ ماقمتِ باعداده يُصلِح لأن يكون ورقة عمل بحثية تُنشر في أهم المجلات المحكمة علمياً”.

 صحيحٌ بأنه لم أكن أعرف الكثير عن المجلات المحكمة علمياً والتي لم أهتم بها الاّ لمرحلة الماجيستير ولكنني علمتُ فيما بعد كم شدّه عملي لدرجة أنّه وضعني في مرحلة كنتُ بحاجة الى خمس سنوات كي أصل بعدها لهذه المرحلة. كانت كلماته حافزا لي، بل كانت أكثر من ذلك بكثير، كان بمثابة قوّة الدفع والوقود الذي نحتاجه دائماً لإستكمال المسير.

 إنّه التحفيز الذي يمكن له أن يحدث الفرق الكبير عند طلابكم والذي لم أبخل به يوماً على طلابي.

انتهت الندوة، وشكر الاستاذ الجميع؛ ثمّ اصرّ على أن يثني على ماقدمت، ويهنئني على الرّوح الرياضيّة التي تحليّتُ بها وقبولي بالنتيجة بالرغم من أنني لم أكن مقتنعة بها.

 وأخيراً وبكل تأكيد لن أنسى ان انقل لكم، رأي والدتي، التي كانت تنتظرني بفارغ الصبر لتعرف النتيجة لتقول:” بسرعة أخبرينني،  بالتأكيد لقد فزتِ”، ضحكتُ وقلت كلّا لم أفز ولكنني أديتُ أفضل أداء، لقد أعجب الجميع بعملي، ولا تهمني النتيجة، وسردت لها تفاصيل ماحصل.

 في الحقيقة لم تقتنع أمي بوجهة نظر أصحاب “نظريّة التكنولوجيا”، وقالت ” لا يَهُم، تعلّمي على هذه التقنيات، وأنا اعرف انك تستحقين،  تباً له لقد أطفأ بهجتي!” .

التعليم بالتحفيز والحب أهم ما يمكن أن يُقدم للطالب، سواء أكان التعلم بالمباشر في الصف او عن بعد عبر الإنترنت، والطالب الذي يُحب ما يتعلمه، يتعلمه أسرع ويبدع فيه ويبرع. فهل يمكننا اعتماد تقنية التعلم عن حب وبحب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى