الجمعيات الأهلية تعود لنقطة الصفر… الى الرعاية!

لبنان عربي – رندة أحمد عبد الكريم
في الجزء الثاني من كتابه “الديمقراطية في أمريكا”، كتب (Alexis de Tocqueville) أليكس دو توكفيل: “إن الأمريكان في جميع الأعمار ومن جميع الطبقات والأماكن نجدهم يكوّنون الجمعيات فليس لديهم شركات صناعية وتجارية فحسب بل لديهم جمعيات في شتى أنواع المجالات الدينية والأخلاقية والخيرية… إنهم يكوّنون الجمعيات باستمرار في كل نواحي حياتهم وفي كل مجال، فأنت تجد على رأس كل مؤسسة جديدة في فرنسا حضور الدولة، وفي إنجلترا حضور الرجل الإقطاعي، أما في أمريكا فلا تجد إلا الجمعيات”.
من هذا المنطلق، كان لا بد من طرح مسألة الجمعيات الاهلية في لبنان، الذي يعاني انهياراً اجتماعياً واقتصادياً ومالياً، أرهق كاهله، أضف الى ذلك، ارتفاع خطير في اعداد الفقراء، حيث وصلت نسبة الفقر الى اعلى درجاتها منذ تأسيس الكيان اللبناني..
كما أن طرح هذا الموضوع سوسيولوجياً وتنموياً، يأتي في اطار الغياب الدائم والمتراكم للحكومات اللبنانية المتعاقبة عن القيام بدورها الرعائي والاجتماعي والانماء المتوازن، حيث باتت عشرات المناطق اللبنانية منفصلة تماماً عن وجود الدولة، وهيبتها الانسانية والتنموية والرعائية..
وبالتالي أصبح وجود العمل الأهلي المتمثل بالعائلات أو الأشخاص أو المؤسسات الدينية والمدنية والجمعيات المحلية ضرورة قصوى لضمان استمرار افراد المجتمع المحلي في الحياة..
أما أبرز هذه الأعمال الإنسانية والتنموية، فهو العمل الذي تقوم به الجمعيات، إحدى الآليات الأساسية التي تسهم في تحقيق التنمية، كما تعد من أهم الوسائل المستخدمة للمشاركة في النهوض بمكانة المجتمعات المحلية في لبنان.
دور الجمعيات في ظل تلاشي الدولة
ويكتسب العمل الجمعوي أهمية متزايدة في ظل أخطر الأزمات التي يمر بها لبنان في تاريخه المعاصر.. سيما مع تراجع قيمة العملة الوطنية امام الدولار الاميركي، ربطاً بالازمة الاقتصادية الممتدة منذ تسعينات الاقتصاد الريعي وسياسات التبعية والانتماءات الضيقة والولاءات المريضة والفساد.. بالاضافة الى اتساع الهوة بين موارد الحكومات المتعاقبة وازدياد احتياجات الشعب اللبناني.
نتحدث عن الجمعيات حين نتحدث عن الدولة اللبنانية التي لم تعد قادرة على توفير احتياجات أفرادها على مساحة الجمهورية، التي امتلأت ايضاً بالنازحين السوريين.
فمع زيادة تعقيدات الظروف الحياتية ازدادت احتياجات المجتمع اللبناني، وأصبحت في تغيّر مستمر، ولذلك كان لا بد من وجود جهة أخرى تساند الجهات الحكومية وتكمل دورها لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، ويطلق على هذه الجهة “منظمات المجتمع المدني” وعلى رأسها الجمعيات الأهلية التي من المفترض أن تلعب دورًا سباقًا وليس تكميليًا في معالجة بعض القضايا الإجتماعية والإقتصادية والثقافية وغيرها…
تبدّل الدور والوظيفة
برزت الجمعيات في لبنان كامتداد لإرث اجتماعي منبثق من هياكل المجتمع على امتداد التاريخ، وهي بلورة لتنظيم جماعي ولحاجيات المجتمع. كما تمثل الجمعيات اليوم فضاءات لممارسة الحرية والمشاركة والمواطنة وخلق للمبادرات الجماعية ولتجسيد قيم التضامن، “فضاءات تتزايد أهميتها في المجتمعات الحداثية بقدر تراجع التماسك الاجتماعي، وتزايد حدة الإقصاء الاجتماعي وتهميش لشرائح واسعة من السكان وتعرضهم للهشاشة الاجتماعية، بفعل عجز هذه المجتمعات عن المزاوجة بين إنتاج الخيرات والنمو الاقتصادي من جهة، وبين خلق مناصب الشغل وتعميم العيش الكريم، وما يستلزمانه من عدالة اجتماعية من جهة أخرى”.
فبعد أن كان الهدف الأساسي لهذه الفضاءات هو تقديم الرعاية والإعانة للمجتمع اللبناني، أصبح الهدف إحداث التنمية في المجتمع.. الا انه عاد في ظل الازمة اللبنانية الى نقطة الصفر أي الى الهدف الاساسي المتمثل بالرعاية والاعانة.. فالشعب اللبناني بات يعيش على المساعدات والاعاشات والتحويلات المالية إن وجدت من المغتربين..
وبالطبع لعبت الجمعيات دوراً اساسياً ومهماً في هذا الاتجاه، حيث استطاعت ان تستأثر باهتمام الحكومات العالمية والمنظمات الدولية، وأصبحت المكان الأنسب والأفضل من المؤسسات والوزارات والدوائر الحكومية اللبنانية بالنسبة للجهات المانحة للمساعدات و الممولة للبرامج التنموية، لأنها تعتبر بطريقة غير مباشرة، أنّ الدولة اللبنانية، سارقة محترفة لمساعدات مواطنيها..

ملاذ الشعب…فهل تستعيد حضورها الإنمائي؟
وبالتالي، إنّ الجمعيات وعلى الرغم من وجود عدد كبير من الاستغلاليين في صفوفها، تبقى وحدها القادرة ان تستجيب لحاجات ومتطلبات المواطنين، و تعمل على تأطيرهم داخل مجموعات، في إطار مقاربة تشاركية، و التي تشكل (مقاربة تشاركية) العمود الفقري لنجاح أي مبادرة تنموية. خصوصاً بعدما أبانت المقاربات الكلاسيكية، البيروقراطية عن فشلها الذريع في المضي قدما نحو التنمية الشاملة المنشودة.
في النتيجة، عرفت أدوار الجمعيات في لبنان تحولا كبيرا خلال السنوات القليلة الماضية، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.. مرورا بحرب تموز ٢٠٠٦ والحرب في الشام ٢٠١١ التي ساهمت في نزوح الاف السوريين الى لبنان.. وصولاً الى انفجار مرفأ بيروت في ٤ اب ٢٠٢٠ وصولا الى انتشار فيروس كورونا والذي ترافق مع الانهيار الاقتصادي الكبير..
من الرعاية الى التنمية ومن ثم الى الرعاية.. جمعيات تؤمن بالانسان والانسانية.. كما تؤمن بالتنمية والمشاريع السوسيو اقتصادية للفئات المهمشة.. وها هي الان تقوم بدورها في توزيع المساعدات الغذائية والحاجات الاساسية للفقراء.. فهل ستبقى في ظل هذا التفكك الإجتماعي والصراع الطائفي وانهيار المؤسسات تقوم بدورها التنموي الذي يصب في نهج بناء الانسان في لبنان؟