هل تحل منظمات المجتمع المدني مكان الدولة في العملية التنموية؟

لبنان عربي – رندة أحمد عبد الكريم
يبدو أن سؤال الإنطلاق الاساسي في ظل ما يشهده لبنان من حصار مالي واقتصادي واجتماعي، وفي ظل الإرتفاع غير المسبوق لنسبة الفقر هو : كيف يمكن الخروج من المأزق وفك الحصار والبدء بتحقيق التنمية البشرية المستدامة التي من المفترض أن تحقق كافة حاجات الناس وتلحظ حقوق الاجيال القادمة وتحافظ بدورها على البيئة وتمنع التلوث؟
يبدو أن المقاربة السوسيو تنموية هنا، تحتاج الى العودة الى السياق التاريخي للتنمية، انسجاماً مع التراكم التاريخي للازمات في لبنان، التي وصلت في نهاية المطاف الى الحرب والاغتيالات والانفجارات وتعميق الانقسام والتوتر بين الطوائف والمذاهب، وبين تقسيم المناطق بما يشبه الفدرالية المريضة.
أما الأزمة الاقتصادية الأخيرة، فكانت الأخطر في تاريخ لبنان منذ تأسيسه حتى اليوم، حيث شاهدنا انهياراً تاماً لليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي، بالاضافة الى ارتفاع نسب التصخم، وارتفاع الأسعار والاحتكار والذل أمام محطات البنزين والأفران والصيدليات، وتصاعد نسبة السرقات والجريمة والشغب والتعديات الأمنية. كل هذا ترافق مع تراجع تام في الآداء التنموي للدولة اللبنانية، مقابل محاولات جدية للمنظمات الدولية والجمعيات الأهلية والمجتمع المدني.
لذلك نرى أن لبنان يعود الى نقطة الصفر في مقاربة المسألة التنموية. فالواقع يفرض العودة الى التنمية التي ارتبطت في بداياتها بالنمو الاقتصادي كما يفترض الانتقال بالسرعة القصوى الى التنمية البشرية فالتنمية البشرية المستدامة.
هذا المفهوم الذي يجب أن يعرف تغيراً كبيراً في مدلوله ومضمونه، تحت تأثير التغيرات السريعة التي شهدها لبنان، وهي تكاد تشبه تلك التغيرات التي شهدها العالم، منذ انهيار النموذج الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي (سابقا) وأوروبا الشرقية، وبروز ظاهرة العولمة بكافة مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، بحيث لم تعد التنمية- كعملية- تعني مجرد نقل المجتمع من حالته التقليدية إلى حالة التحديث modernisation(1) اعتمادا على مؤشرات اقتصادية بحتة مثل مستوى الدخل الفردي و درجة النمو الاقتصادي، و نسبة التضخم ….الخ. بل أصبح يقصد بالتنمية تلك العملية التي تضمن حاجات الأجيال الحاضرة دون الإنقاص آو القدرة على الوفاء باحتياجات الأجيال القادمة وذلك بالعمل على تنمية الموارد والمحافظة عليها من التلوث، وهو ما أصبح يعرف الآن بالتنمية المستدامة ( développement durable).
كما ونلفت الانتباه، أنّ الدولة في لبنان اصبحت غائبة بشكل شبه كلي عن أداء دورها التنموي منذ الحرب السورية عام 2011، مع وصول أكثر من مليون نازح سوري الى مناطق جغرافية ممتدة على مساحة الجمهورية، مروراً بالأزمة الاقتصادية الحادة، وجائحة كورونا وما فرضته من اقفال للبلد، بالاضافة الى انفجار مرفأ بيروت في اب اغسطس 2020، وأخيراً وليس آخراً الانهيار غير المسبوق لليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي حيث وصل سعر صرف الدولار الواحد الى أكثر من 15 الف ليرة.
بناء عليه، لا بد ان تؤدي هذه التطورات إلى إعادة تشكيل العلاقات والشراكات اللبنانية، وإلى إحداث تغيرات محلية، مثل تغير دور الدولة، وبروز دور وأهمية المجتمع المدني في الحياة السياسية و الاجتماعية والثقافية وإعادة ترتيب الأولويات، بحيث يصبح مفهوم التنمية الشاملة هو المفهوم المحوري للذي يشير إلى العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، التي تستهــــــدف تنمية نوعية الحياة، مما يعني التحسن في مختلف نواحيها، أي رفع مستوى العنصر البشري في إطار من الحرية والديمقراطية وكل ما يتصل بالعمل والتعليم والصحة والغذاء، والمياه الصالحة للشرب، والصرف الصحي، وغير ذلك من الجوانب التي تؤثر في حياة البشر بصفة مباشرة.
و إذا كان مفهوم التنمية قد عرف تغيّراً في مدلوله، فإن مهمة الاطلاع بمجهود التنمية الشاملة لم تعد حكراً على الدولة اللبنانية الغائبة الحاضرة وحدها تصوراً و تخطيطاً وتنفيذاً، بل لا بد أن تفتح الدولة على المجتمع المدني، وتعتمد “مبدأ التشاركية في مختلف العمليات التي تشتمل تحسين إطار الحياة، و مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل، خفض معدلات البطالة و الحد من الفقر، و توفير التأمين الإجتماعي للفئات الهشة، وزيادة مشاركة المرأة في الشأن العام، و تنمية الموارد البشرية”.
في هذا السياق، لا بد من الاشارة الى اشكالية عدم قدرة الدولة اللبنانية الاضطلاع بأي مجهود تنموي وهي غارقة في مليارات الدولارات من الديون، كما أنها فاقدة للشرعية في ظل انقساماتها وعدم قدرتها على تشكيل حكومة وطنية جامعة، بالاضافة الى انهيار العلاقات بين اقطابها السياسية وعلاقاتها مع الدول الكبرى والدول الاقليمية والعربية.
وبالتالي من غير الممكن أن تضطلع الدولة اللبنانية بمجهود التنمية لوحدها، أي بالاعتماد على الأجهزة الحكومية الغارقة بالفساد فقط. بل أصبح من الضروري على الدولة أن تشبك مع المجتمع المدني بكافة مؤسساته وخاصة الجمعيات والمنظمات من اجل إشراكهم في هذه العملية.
يتم ذلك بفتح المجال أمام المجتمع المدني اللبناني، الذي بات يلعب دوراً اساسياً في كافة المناطق اللبنانية الفقيرة في المقام الأول، وفي المخيمات السورية والفلسطينية بشكل أقل على وجه العموم، على عكس المنظمات الدولية والجهات المانحة، التي تقدم المساعدات تحت مسميات الديمقراطية وحقوق الانسان.
نحو التنمية المحلية
وفي إطار الاهتمام المتزايد بالتنمية الشاملة، ظهر مفهوم التنمية المحلية كمصطلح جديد في الأدبيات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، يشير “إلى آلية جديدة لتنمية المجتمع المحلي يجري بمقتضاها التخطيط لمختلف العمليات وتنفيذها على أساس تعاون الجهود الأهلية و الحكومية، لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات المحلية، عبر عملية تعبئة وتنظيم مجهود أفراد المجتمع وجماعاته، وتوجيهها للعمل المشرك مع الهيئات الحكومية بأساليب ديمقراطية، لحل مشكلات المجتمع و تهيئة مقومات الحياة الكريمة لأفراده”.
ووفقا لهذا المنظور سنركز في هذا التحليل على بيان دور المجتمع المدني في لبنان في ما أصبح يعرف اليوم بالتنمية التشاركية التي تعني مشاركة كافة مؤسسات المجتمع و أفراده مع الدولة لتحقيق التنمية بشموليتها واستدامتها وعدالتها.
ولكن قبل الدخول في مفهوم التشاركية لا بد من الاشارة الى أن تنمية المجتمعات المحلية في لبنان لها خصوصيات تختلف عن أية مجتمعات أخرى، فالدخول اليها فعلا يحتاج الى التشارك مع جهات مختلفة نظرا لواقعها العائلي والطائفي والمذهبي وانقساماتها السياسية حتى داخل المنزل الواحد.. ما يثير اشكالية الصعوبات في الدخول اولا الى هذه المجتمعات والكشف عن مشاكلها وحاجاتها من جهة، ومن ثم كيفية اقناع افراد المجتمع المحلي بالمشاريع التي من المفترض التخطيط لها وتنفيذها.. خاصة ما يتعلق بمشاريع قد تطال التغيير في الفكر والثقافة واسلوب العيش.. وابرزها مثلا ما يتعلق ببرامج تمكين المرأة.
انطلاقا من هذه الصعوبات، “يعد مفهوم التشاركية paternership من المفاهيم الجديدة التي أصبحت متبادلة في السياقات الاقتصادية و الإدارية بحكم تعقد علاقات السوق، ليشير إلى علاقة قانونية بين منظمات شريكة، و قد اتسع هذا المفهوم ليشمل مؤسسات مدنية، فهو صيغة بديلة أفرزتها السياسات التي حلت محل الدولة الراعية état providence والتي تقوم على مقاربة الاعتماد المتبادل بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة، بغرض تحقيق مصلحة عامة مشتركة ( النفع العام)”.
وقبل الخوض في الدور المنوط بالمجتمع المدني اللبناني في عملية التنمية المحلية، وفقا للنظرة الجديدة التي أصبحت تعتمد مبدأ التشاركية كمقاربة جديدة، يتم بمقتضاها الاتفاق على عقد تواصلي، يهدف إلى خلق مجال عمومي جديد ومتحرر من كل الضغوط في إطار ما يعرف بالديمقراطية التشاركية démocratie participative التي تبنى في إطار تفاعلات اجتماعية وسياسية واقتصادية بين مختلف الإطراف المجتمعية، يتعين بيان مفهوم المجتمع المدني، وتنامي دوره في العالم الغربي وفي الدول النامية ومنها لبنان المتحول الى دولة فقيرة مديونة.
في هذا الاطار، لا نريد العودة الى السياق التاريخي للمجتمع المدني الا انه بامكاننا الانطلاق من الاهتمامات الحديثة بهذا المفهوم، التي تطرح العديد من القضايا لعل أبرزها، المواطن والمواطنة والمجتمع، الدولة، والحريات السياسية، ومنظومة القيم المساندة للمجتمع المدني، على اعتبار انه يعتبر شكلا من إشكال الحياة الاجتماعية، يرتبط الأفراد من خلاله بالدولة و يضم مجموعة من الجهات الفاعلة غير الحكومية، وهو من حيث المفهوم تبلور تدريجيا عبر مراحل تاريخية مختلفة: “بدأت من القرن السابع عشر و الثامن عشر في أوروبا بعد انهيار المجتمع الإقطاعي وظهور المجتمع البورجوازي، وقد ساهمت عدة مدارس في صياغة هذا المفهوم مثل مدرسة العقد الاجتماعي، التي يمثلها توماس هوبز، الذي يرى أن المجتمع المدني هو مجتمع السلطة المطلقة، و جون لوك الذي يرى أن المجتمع المدني هو المجتمع الضامن للحقوق المتساوية لكل الأفراد وجان جاك روسو الذي يرى أن المجتمع المدني هو مجتمع الإدارة العامة، أما المدرسة الهيجلية فترى أن المجتمع المدني بمفرده بعيدا عن الدولة لا يستطيع تحقيق العدالة و الحرية، حيث تكون الدولة هي الإطار القوى القادر على تحقيق هذه الغاية، بينما ترى المدرسة الماركسية بأن المجتمع المدني هو ميدان الصراع الطبقي المؤسس للدولة، و في نفس السياق تقريبا يرى المفكر الايطالي انطونيو غرامشي بان التنظيمات غير الحكومية تمارس وظيفة الهيمنة الثقافية، حيث يرى بأنه لا يكفي للوصول إلى السلطة و الاحتفاظ بها السيطرة على أجهزة الدولة و لكن لابد من تحقيق الهيمنة على المجتمع أولا، و لا يتم ذلك الأمن خلال منظمات المجتمع المدني و عبر العمل الثقافي بالدرجة الأولى”..
ونتيجة للتحولات التي شهدها لبنان، لا بد ان تلعب مؤسسات المجتمع المدني وخاصة الجمعيات دورا اساسيا في المجالس المحلية وفي تنمية المجتمعات المحلية فهي لديها القدرة على تحديد أولويات التنمية المحلية ووسائل تحقيقها.
الا أننا سننتهي بطرح اشكالية تمنع هذه الجمعيات وكل مؤسسات المجتمع المدني من لعب دورها الحقيقي، وهي الاشكالية المتعلقة بهيمنة السلطة السياسية على المجتمع المدني ومؤسساته. فهذه المؤسسات لم يتم تعزيزها في لبنان ودعم وتجديد دورها في المجتمع، و تحولها إلى تنظيمات عضوية ORGANIQUE حيث إن كثيرا من هذه الجمعيات قبلت أن تكون امتدادا لأحزاب سياسية، أو جهات نافذة بل إن بعضها حاول أن يقوم بدور بديل للإدارة، رغم أنها ليست مؤهلة لذلك، إذ لا يمكنها أن تكون بديلا للسلطة العمومية (مؤسسات الدولة، و أجهزتها التنفيذية)، لأن دورها يختلف، بالإضافة إلى عدم استقطابها للكفاءات المتخصصة وسقوطها في الشللية والعصبية، وانصرافها عن القضايا الجوهرية للمجتمع، واهتمامها أكثر بالمنافسة غير الشريفة على المناصب والتمويل، وكان من نتيجة ذلك انصراف أفراد المجتمع عن الانخراط في صفوفها، مما افقدها القدرة على التأثير خارج الحدود الضيقة التي رسمتها لنفسها.