مَن هي الدولة المالية العميقة التي نجوع بسببها؟

لبنان عربي – سامر زريق
“وينييه الدولة” تعبير ساخر كان يستخدمه اللبنانيون فيما سبق للتهكم على الدولة وسلطتها الإستنسابية، لكنه تحول اليوم إلى تعبير عن الحسرة والقهر، وأصبح لازمة تتكرر على كل شفة ولسان، بفعل الأزمة الإقتصادية والمعيشية القاسية.
وإذا كان من الطبيعي أن تحمّل “العامة” دولتها مسؤولية الأزمات التي تعاني آثارها، فمن غير الطبيعي، أن يقوم بذلك قطاعات وفئات وشركات تهيمن منذ سنوات على الإقتصاد اللبناني وتتحكم في مساره ومقدّراته.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، لماذا تحّمل الشركات المستوردة الحكومة اللبنانية، مسؤولية إختفاء السلع والبضائع من الأسواق، وهي التي تتحكم بحركة الإستيراد وتدفق البضائع إلى الأسواق اللبنانية دون أي تدخل من الدولة؟
ولماذا تحّمل المصارف، والصيارفة، والمستشفيات، ومحلات التجزئة وسواها من القطاعات، الدولة مسؤولية إنهيار سعر الصرف، وتبديد الإحتياطي النقدي، والتهريب، وإنقطاع اللوازم الطبية الخ…؟
إذا كانت كل تلك الفئات التي تعد من أعمدة النظام الإقتصادي والمالي في لبنان، ولها اليد الطولى في تشكيل السلطة، تقوم بتحميل الدولة مسؤولية كل الأزمات، فمن تكون الدولة؟؟
من هي الدولة في لبنان؟
يجب العودة قليلاً الى أسس الدولة والنظام في لبنان، للإحاطة بالدور الذي رسمه لها المؤسسون وهامش الحركة المسموح به.
عندما تم تأسيس الجمهورية، هيمن على المشهد السياسي فيها طبقة من رجال المال والأعمال وأصحاب الشركات العائلية عبر ممثليهم القانونيين، ووضعوا للجمهورية نظاماً ليبرالياً كلاسيكياً يُعْلي من شأن الحريات، ويشدد على الحرية الاقتصادية والتبادل التجاري (السوق الحر)، وعلى سياسة اليد المرفوعة “laissez faire”، أي حيادية الدولة وعدم تدخلها في النشاط الإقتصادي، وهو المبدأ الأهم والذي تم السهر عليه بأمانة حتى اليوم.
وكما يقول الفيلسوف والإقتصادي الكلاسيكي المعروف آدم سميث، “إن يدا خفية تقود الأفراد في سعيهم وراء مصالحهم الشخصية نحو تحقيق المصلحة العامة للمجتمع دون الحاجة إلى يد مرئية (الدولة) لإرغامهم على ذلك ودفعهم نحوه دفعاً”.
أي إن الدولة بمثابة شرطي مرور، ينحصر عملها في تنظيم عمل الشركات وقوننة إحتكاراتها.
من هذا المنطلق كانت طبقة التجار تلك، هي اليد الخفية اللبنانية التي تمانع وتعارض أي تعديل أو تطوير في وظيفة الدولة عبر ممثليها المتغلغلين في أروقة السلطة نواباً ووزراء ومحافظين ومدراء عامين.
ولقد استطاعت هذه الدولة المالية العميقة استيعاب جميع التحولات السياسية التي مر بها لبنان والحفاظ على نفوذها وهيمنتها، من مرحلة الإنتداب الفرنسي، مروراً بالناصرية والقومية العربية، ومن ثم منظمة التحرير الفلسطينية، والغزو الإسرائيلي، حتى في الحرب الأهلية نجحت تلك الفئة باستيعاب ميليشياتها المتنوعة، وفي دولة الطائف كانت من أكبر المستفيدين من الوصاية السورية التي دخلت مع رموزها في شراكات كانت تدر مداخيل لم يكن يحلم بها منهم أحد.
ويكمن سر النجاح في مرونة الدولة المالية العميقة وقدرتها على التأقلم مع كل جديد سياسي، وأنها تنسج مع الحكام الجدد والأوصياء عليهم خيوط شراكات تجارية، مفسحة المجال أمامهم لجني ثروات مالية تسلب العقول وتخدّر الضمائر وتدفن المبادئ.
ماذا عن دولة حزب الله؟
لم تشذ دولة حزب الله عن هذه القاعدة، فقد دخل الحزب وقياداته بشراكات غير مرئية مع الدولة المالية العميقة، يمكن تلمس بعض آثارها بُعيد سيطرته على وزارة الصحة، حيث استمرت هيمنة الدولة العميقة تحت أنظار وزراء الحزب، مقابل حصول شركات تدور في فلكه على عدد من العلامات التجارية، وكذلك الحصول على حصة “محترمة” و”وازنة” من سوق مبيعات الأدوية عبر مستودعات الأدوية تحديداً.
كما يمكن ملاحظة تراجع حدة الحملات التي يقف خلفها حزب الله ضد حاكم مصرف لبنان، وكذلك المجموعات الثورية التي كان يحركها ضده، عقب الصفقة التي أبرمها الحاكم مع الحزب، والتي بموجبها يضخ مصرف لبنان يومياً كمية كبيرة من الدولارات لصالح الصرافين حصراً (اي خزنة الحزب)، ولا تزال مفاعيل الصفقة مستمرة حتى اليوم.
وما دامت الدولة المالية العميقة لا تزال تسيطر على النشاط الاقتصادي في لبنان، فلماذا يقوم عناصرها على إختلاف قطاعاتهم ونشاطاتهم برفع الصوت ورمي تهم التقصير نحو الدولة في هذا الظرف الحساس؟
هناك ثلاثة أسباب رئيسية:
الأول: تقديم السلطة الحالية بجميع أركانها كقربان لحركة الإحتجاجات الشعبية المتعاظمة منذ نهاية صيف عام 2019، وتحميلها مجتمعةً مسؤولية الإنهيار، فيسهل التخلص منها في أول عملية إقتراع، ويبقى النظام مستمراً كما كان في السابق مع أركان السلطة الجديدة.
الثاني: إظهار الدولة اللبنانية أمام المجتمع الدولي كدولة فاشلة وغير منتجة، وأنه لا يمكن التعويل على مؤسسات الدولة والقطاع العام للقيام بأي جهود إجتماعية للحد من آثار الأزمة الإقتصادية، مما يفسح المجال أمام الدولة المالية العميقة للتعاون مع الدول الكبرى، عبر المنظمات والجمعيات الخيرية كرديف للدولة، وبالتالي ضمان استمرار تدفق الأموال والبضائع مع بقاء النشاط الاقتصادي برمته تحت قبضتها.
وقد نجحت هذه السياسة إلى حد بعيد، فالغضب الدولي تركز على السلطة وعلى السياسيين، وأدى الى تعاون المجتمع الدولي مع المنظمات غير الحكومية لتنفيذ برامج إجتماعية كثيرة ومتنوعة، والكل يدرك من هم مستوردي المواد الغذائية في لبنان وبأي فلك يدورون، وأن أموال المساعدات تدخل عبر المصارف لا سواها.
الثالث: شكلت الأزمة الإقتصادية مأساة شعبية ووطنية، لكنها في الوقت عينه كانت فرصة ذهبية أمام طبقة رجال الأعمال، لجني أرباح وثروات هائلة، مما أشعل صراعاً بين أركان وأطياف هذه الطبقة، فكل قطاع يريد الحصول على أكبر قدر من الأرباح، ولو على حساب من تشاركوا معهم لسنوات، في الوقت الذي يحاولون الظهور كضحايا للإنهيار النقدي المتسارع.
التهريب إلى سوريا
لذا فإن التهريب إلى سوريا وغيرها من الدول لا يتحمل مسؤوليته حزب الله منفرداً، بل هي مسؤولية مشتركة بينه وبينهم، في صيغة تحالفية تحتمها المصالح المالية والسياسية والإقتصادية لكل منهما.
وقد يكون لحزب الله اليد الطولى في الأزمة التي نعيشها اليوم، لكنه بالطبع ليس الوحيد في هذه الساحة، بل معه من هو حليفه في السياسة ومن هو خصمه.
خياران أحلاهما مرّ
أمام هذا الواقع نحن اليوم أمام خيارين أحدهما سيء والثاني أسوأ: إما ترك الدولة المالية العميقة تستمر في سيطرتها على مفاصل الحكم وعلى الإقتصاد المتهالك والرضا بالفتات الذي تصدره لنا كخدمات اجتماعية.
وإما التحول عبر حزب الله وحلفائه الى دولة تشبه عدداً من الدول المجاورة، حيث يسيطر القطاع العام على الإقتصاد على حساب القطاع الخاص، وينتج مدارس رسمية فاشلة ومستشفيات حكومية أقرب إلى براد للموتى.
بكلام آخر، إما أن يستمر نظام السوق الحر، أي ترك مقاليد الإقتصاد في يد الدولة المالية العميقة، وإما نظام “الدولانية” الذي يقودنا إليه حزب الله…وفي الحالتين الدولة بمفهومها المؤسساتي غير موجودة.