هكذا يتحكم “بارونات المال والتجارة” بمصير اللبنانيين…

لبنان عربي – سامر زريق
لا شك في أن الأزمة الاقتصادية المعاشة، جلبت العار والمهانة للقوى السياسية، إلا انها شكلت في الوقت عينه فرصة ذهبية لفئة معينة لمراكمة الأموال والثروات على حساب معاناة اللبنانيين، فمن هي هذه الفئة؟
هم أصحاب الدولة الحقيقيون، هم الذين قام أجدادهم بانشاء هذا الكيان ونظامه السياسي والاقتصادي، وكان أولادهم على مر الزمان حراس هذا النظام.
هم العائلات والسلالات التجارية التي تهيمن على معظم مصادر الدخل في لبنان عبر الامبراطوريات التجارية والعائلية التي أقاموها.
هم ببساطة “الدولة المالية العميقة”.
في كل دولة توجد طبقة تسمى “الدولة العميقة”، يكون أعضاؤها حراس النظام فيها، ويعبّر هذا المصطلح عن التحالف العميق الذي يجمع بين ظهرانيه بنيات الدولة المختلفة، من مركب إداري، وسياسي، وإعلامي، ومؤسسة عسكرية، واستخبارات، وقضاء، ومثقفين، ورجال دين.. تجمعهم مصالح اقتصادية ومشاريع تجارية ومالية، وعلاقات اجتماعية وعائلية، وطقوس احتفالية، وانتماءات طائفية، أو مذهبية، وما سواها..
وتوحدهم جميعا “رابطة” واحدة منطلقها ومؤداها: الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة، واستثناؤهم من أية محاسبة أو مساءلة، ثم عدم تعرضهم لأية متابعة قضائية إن اهتز النظام القائم، أو استجدت أحداث من شأنها زعزعة المنظومة.
وفي العادة تكون الدولة العميقة من جنس النظام القائم في هذه الدولة. وهو ما يسري على لبنان، حيث أنشأت مجموعة من التجار ورجال الأعمال جمهورية عمادها التجارة والاستيراد المفرط، ومذهبها الأساس والأعلى هو المال.
لذا كان من الطبيعي أن يتزعم الدولة العميقة في لبنان بارونات المال والتجارة. لكنها ليست قاصرة عليهم، فهي تضم عناصر رفيعة المستوى داخل الحكومات ومجلس النواب وأجهزة الاستخبارات والجسم القضائي وسائر مؤسسات الدولة، وتسيطر على الإعلام وتتحكم في تدفق المعلومات التي يجب أن تصل الى عامة الشعب.
هؤلاء “البارونات” هم أصحاب الدولة الحقيقيون، هم الذين يدعمون وصول هذا السياسي أو ذاك لمنصب وزاري أو معقد نيابي، ليكون ممثلاً لمصالحهم وحارساً لثرواتهم ومنافعهم.
ومعظم مكونات المنظومة السياسية مدينة لهم بالوصول الى مقاعد السلطة، لذا لا يتوهمن أحد بقدرة أي حكومة على مكافحة الفساد الممنهج والمقونن داخل الدولة اللبنانية، فالقرار الفعلي هو بيد الدولة العميقة.
قد يخيل للبعض أننا نتحدث عن المصارف أو “حزب المصرف” كما يظهر في أدبيات حزب الله والقوى الحليفة له. لكن المصارف وأصحابها ما هم إلا إحدى أذرع “الدولة المالية العميقة”، وفي حال فشلت جهود إعادة تعويمها، ستقوم بالتخلص منها، وستدخل مكانها مصارف جديدة تعمل في خدمتها وفي رعاية وحماية ثرواتها.
بارونات الدولة المالية العميقة هم الأصحاب الفعليون لكل الكارتيلات التجارية وهم الذين يديرونها من خلف الستار. وهم الذين يمنعون الدولة من استيراد المشتقات النفطية والأودية والمغروسات الطبية.
وعندما نتحدث عن التجار، ألا نتساءل كيف يحصل هؤلاء على حقوق التمثيل التجاري وكيف يفوزون دائماً بالمناقصات التي تجريها الدولة في أي قطاع؟.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن إحدى العائلات الأساسية في الدولة العميقة لديها أكثر من 10 شركات في مجال استيراد الأدوية “فتّال ومتفرعاتها”، تحتكر عن طريقها مئات العلامات التجارية الهامة في هذا القطاع. هذه العائلة تحصل على الدولارات من مصرف لبنان على السعر الرسمي (1500 ل ل) وتمول شحنات الاستيراد التي لا تدخل سوى ورقيا الى لبنان، وتبيعها في الخارج الى الدول الأوروبية والعربية، محققة ربحاً خيالياً من الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية، بالاضافة الى نسبة من الحسم التي تمنح على الكميات، وتبقي هذه الأرباح في حسابات خارج لبنان.
ولا تجد هذه العائلة أي غضاضة في حرمان الاسواق المحلية من الدواء بحجة عدم قدرتها على الاستيراد او رمي التهمة على حاكم مصرف لبنان، حتى ولو تسبب ذلك في ازهاق ارواح العشرات من اللبنانيين، فالمال بالنسبة اليهم يعلو ولا يعلى عليه.
هذه العائلة نفسها تملك أيضاً مباشرة أو مواربة عشرات الكيانات التجارية والمالية في قطاعات الالكترونيات والادوات الكهربائية والهواتف ووغيرها الكثير. والطريف أن قسماً كبيراً من الناس الذين نزلوا الى الساحات والشوارع في 17 تشرين يعملون في هذه الكيانات التابعة للدولة المالية العميقة، وغالبيتهم لا يعلمون أن الملاك الحقيقيين للشركات حيث يعملون هم المسؤولون الفعليون عما انتفضوا ضده.
هذه الشركة مثال صغير عن الصورة الأعمق للأزمة اللبنانية، وهي تفعل ذلك طبعا، بالتضامن والتكافل مع المنظومة السياسية التي ينصب جلّ عملها في تأمين التسهيلات اللازمة والمطلوبة لهذه الشركة وغيرها، ممن يرتبطون ارتباطا وثيقا بالسلطة وناسها، لأن ما يجمعهم أكبر بكثير من عذاب شعب واذلاله وتفقيره.
هذه هي حكاية لبنان منذ تأسيسه حتى اليوم. مائة سنة مرت، ولا تزال تتكرر الحكاية عينها…